جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاترجل يدعى أوتو

رجل يدعى أوتو

أسباب بسيطة للبقاء على قيد الحياة

أهدي هذه القراءة إلى روح أستاذي محمد خان
أروع وأصدق من صنع أفلاماً عن الناس العاديين

لماذا يشغلني فيلم (رجل يدعى أوتو)؟. الآن وأنا أكتب هذه السطور أستطيع أن أجيب. فالفيلم يدور في الأفق السينمائي الأكثر رحابة في مذاقي الإنساني، ثم في مفهومي كأحد محبي وصانعي السينما.
وما أحب إليك من أن تشاهد فيلماً يوليك أنت اهتماماً، يحكي قصتك، يتسرب إلى نفسك ويحاورها؟. هكذا أصبح الفيلم السينمائي عابراً للأزمان والثقافات، ولكن للأسف الإنتاج الأضخم من الأفلام، تيمناً بالسينما الأميركية، قد ترك هذا الفضاء الرحب وصنع لنا أفلاماً مقولبة محدودة الأفق تدور حول ما هو مستحيل في عالمها المصنوع بمزيج من الزيف والافتعال، تاركة ما هو ممكن خارج الاهتمام، متكئة على “سوبر هيرو” لا يقهر في مقابل “سوبر شرير” يسمى البطل المضاد..
ومع مرور الزمن أصبح “الإنسان العادي” يبحث عن نفسه فلا يجدها إلا في بضعة أفلام متناثرة هنا وهناك أطلق عليها، لا أعلم لماذا، “أفلام المهمشين”، هذه التسمية التي بات يحتفى بها نقدياً دون أن نناقش إلى أي مدى قد خصمت من دور وحقيقة هذا الفن الرحب الكريم.

رجل-يدعى-أوتو
رجل-يدعى-أوتو

ولكن هذا البطل كما همشته الأفلام فإنه قام بدوره بتهميشها، ولم يعد يعيرها اهتماماً أكثر من كونها أداة تسلية فقط، حتى وإن كان قد استعار منها، بسحر التكرار، أنماطاً سلوكية وأفكاراً وهمية عن الثراء والنجاح وأسلوب الحياة المشوب بالهوس والاستهلاك، فأصبح يستهلك السينما أيضاً كأي سلعة ولا نستطيع أبداً أن نعاتبه في ذلك.
ماهي حكاية “العم أوتو” الذي أحببناه فأحبنا؟.
سأحاول أن أراقبه وهو يحاول الانتحار داخل شقته معلقاً المشنقة في غرفة المعيشة، وقد جهز كل ما يحتاجه لترك هذه الدنيا والفرار منها، لحاقاً بحبيبته، زوجته، وشريكة حياته الطويلة. تركته “سونيا” وحيداً مستوحشاً ولم يعد لحياته من بعدها معنى يعاش، لقد غادرت الدنيا بعد ما ظلت سنوات طويلة قعيدة إثر حادث أفقدها جنينها وأفقدها القدرة على الحركة، ولكن لم يفقدها أبداً محبتها لزوجها ولا محبته وتعلقه بها.
لقد كانت هي المرآة التي يرى فيها صورته كحبيب محبوب، كبطل له كثير من الأهمية في حياتها، فلما غابت غابت بطولته معها وتوارت تحت الثرى.
ومنذ شهور، بعد أن غادرته، وعدها أن يلحق بها ذلك أنه لن يدعها تنتظره طويلاً، وهو لم يخلف معها موعداً أبداً منذ أن وقع حبها في قلبه وهو شاب تائه مفلس لم يكمل تعليمه، حتى جمعهما القطار في رحلة إلى المدينة، أصبحت هي رحلة حياتهما وقصة حبهما الثرية، فبهذا الحب أكمل دراسته حتى أصبح مهندس ميكانيكا وتحسن كل ما فيه. كان شاباً لا يعير ذاته اهتماماً ولا يرجو من نفسه شيئاً، ومع تلك الحبيبة فقط أصبح كما يحب أن يكون، ومن أجلها فقط وجد معنى للحياة بكل تفاصيلها.. والآن هو يعيش وحيداً، يحيا حياة تسعى إلى الموت.
ينعم أتو أندرسون بالاستقرار المادي بعد التقاعد من عمله مجبراً، وهو يعيش في حي سكني صغير عريق ينتمي للطبقة المتوسطة في بلدة ما على أطراف ولاية ما في أميركا الشمالية.. هذا ما حرص صناع الفيلم علي تجهيله من معلومات لنعلم أننا جميعا نحيا هنا معاً.
هو “العم أتو”، كما تحب ماريسول، جارته المكسيكية الشابة، أن تناديه بعد أن نشأت بينهما صداقة عميقة هي أهم ثمار هذا الفيلم الإنسانية. دخلت مار يسول مع زوجها إلى الحي مؤخراً، حاملين أحلاماً سعيدة بحياة هادئة، منتظرين طفلهما الذي أوشك أن يصرخ أولى صرخاته في الحياة، يستعينان بجارهما، هذا الرجل العجوز المتجهم، ليساعدهما في تجاوز بعض عقبات الدخول إلى بيتهما الجديد، فيستجيب لهما أوتو ممتعضاً، ويبدو أنه لا يحب الاختلاط بالناس، فهو بعيد عن جيرانه منذ زمن. لكن بفعل توتره الشديد من الإزعاج والتصرفات العشوائية، قرر أن يتدخل ويصف لهما السيارة ذات الجرار حتى لا يحدثا أذى في سور المجمع السكني الصغير.

رجل-يدعى-أوتو
رجل-يدعى-أوتو

ولا يمكنك أن ترى هذه الزوجة الشابة ذات الابتسامة المرحة البريئة دون أن تشعر بالبهجة والارتياح، أما أوتو فظل يقاوم هذه الطفلة كثيراً ويبعدها عنه وكأنه يرى فيها تياراً ربما يجرف مشروع الموت الذي كاد أن يتحقق وينقله حيث يحب. تعددت محاولات ماريسول اقتحام هذا العجوز، فقد شغلها هذا الساتر الحديدي الذي يتحرك من خلاله، بينما فطرتها كانت أذكى وأشد فأخبرتها بأنه رجل دافئ حنون ولكنه يخاف من شيء ما، بالطبع لم تكن تتخيل أنه يهاب الحياة مجدداً..
هل ممكن للحياة أن تستعيد أوتو أندرسون؟.
لقد كان هذا الرجل الدافئ المحب جاراً وصديقاً وزوجاً ناجحاً ومهندساً ماهراً كمعظم الناس، وكانت بطولته حقيقةً تكمن في الإحسان المتقن لكل هذه الأدوار. عاش ينبض بالحياة لأنه كان يساهم في حياة الآخرين بالنفع والإيجاب، وخاصة تلك السنوات الطويلة التي قضاها يرفع عن حبيبته معاناة العجز إثر مرض خبيث اجتاح جسدها فظل هو يقاومه، ولكن المرض اختطفها فذهبت معه بعيداً وأصبح أتو بلا دور في الحياة ينفع أي إنسان، حتى أن جاره، وهو صديقه القديم، لم يعد يعرفه فهو يعيش مع زوجته فاقد الحركة والوعي معاً، وتلك الزوجة تعيش بطولتها هي الأخرى بجوار زوجها، ولكن مؤخراً أدرك أوتو أن أصدقاءه القدامى في احتياج إليه.
ثمة شركة عقارات أرادت شراء منازل الحي الصغير لتحويلها إلى مجمع سكني فاخر، وجاراه كانا غير قادرين على تسديد فواتير المنزل، وقد اتفقت هذه الشركة مع ابنهما الذي تخلي عنهما بالهجرة وأراد أن يتربح من الصفقة.. لم يعد باستطاعة أوتو الوقوف جانباً. والواقع أن صداقته بماريسول قد أيقظت بداخله تردداً تجاه مشروع الانتحار، ثم جاءت قلة حيلة جارته، زوجة صديقه العاجز، تجاه الهجمة الشرسة لشركة العقارات.. أسباب بسيطة جداً، ولكنها هي سر الحياة بالنسبة لإنسان ببساطة أوتو وأمثاله من البسطاء الذين لا يعنيهم أن يكونوا أثرياء أو مشاهير، ولكن يعنيهم فقط أن ينفعوا أحبابهم من بني البشر.
وبالفعل استطاع أوتو، بمساعدة كل أهالي الحي وعلى رأسهم ماريسول، أن يفشلوا خطة هذه الشركة الطامعة، كما استطاع أن يعلم ماريسول القيادة

فأصبحت  تقود بمهارة مثله تماماً، فكانت فرحة كبيرة لكليهما، وعادت الحياة تتراقص بداخله فرحة به ووعدته أن يموت موتاً جميلاً هادئاً ويترك خلفه أحباباً يحنوا إليه دائماً.
أتو علي رصيف المترو يفاجأ بسقوط رجل عجوز على القضبان، فيتجمع الناس ملتقطين صوراً للرجل الذي أوشك أن يموت دهساً بالقاطرة، فاندفع أوتو وأنقذ الرجل ثم ذهب بعيداً عن الكاميرات، غاضباً منزعجاً، فقد اعتبروه بطلاً لأنه فقط أدى دوره الطبيعي كأي إنسان عادي.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة