جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةرأس غليص.. أيقونة «من نوع ما» ..

رأس غليص.. أيقونة «من نوع ما» ..

سلمان عز الدين

كان صعبا على الكثيرين أن يصدقوا إمكانية مشاهدتهم لمسلسل «رأس غليص» مرة أخرى،
ذلك أن إشاعة قديمة كانت قد انتشرت (على هيئة حقيقة مؤكدة) مفادها أن الشريط الذي سجل عليه هذا المسلسل البدوي «الأسطوري» قد اختفى تماماً.
«اهترأ من كثرة الاستخدام» هكذا قال البعض،
فيما أكد أولئك الذين لا يرون بدا من وجود أصابع آثمة وراء كل منغص «أن منتجا كبيرا اشترى جميع النسخ وأتلفها كي لا يظل المسلسل ماثلا في أذهان المشاهدين،
مشكلا بذلك عقبة أمام ما ينوي إنتاجه من أعمال بدوية هابطة، أو على الأقل: لا يمكن أن ترقى الى مستوى رأس غليص الذي لا يضاهى».‏

ولكن ها هو المسلسل موجود الآن، وببساطة متناهية، على «يوتيوب» الذي يعرضه كاملا دون تبجح،
وربما دون أن يدري بأنه قام بعمل فذ يشبه أن يأتي أحدنا برأس غليص فعلاً.‏

وإثر جولة ساهية بين مئات الفيديوهات، كان أحدهم يعثر على مسلسل ذكرياته هذا،
وبعد تجاوز الصدمة العاطفية الأولى، يسارع إلى نشر الخبر بكثير من الحبور،
ومع الخبر انتشر حنين لا يقاوم إلى تلك الليالي الخالدة من صيف عام 1977،
عندما كانت قرى كاملة تحبس أنفاسها لساعة كل أسبوع (كان المسلسل يبث كل مساء خميس) في انتظار أن ينجح بدوي ما في قطع رأس غليص.‏

في تلك الحقبة انتهت مرحلة جديدة من نشر أعمدة الكهرباء في البلاد،
وهكذا وصل التلفزيون إلى مئات القرى التي كانت لا تزال غافلة عن واحد من أشكال الترف المديني: الدراما التلفزيونية.
وبين مسلسلات مصرية لا تعني أحدا، تتحدث عن شركات ومستندات وزواج سري بين المدير والسكرتيرة..
كان ثمة مسلسل بدوي يدور حول فرسان شجعان، وشيخ طاغية، وقصة حب بريئة، وعين ماء، وقهوة مرة، ومواقف رجولية..

باختصار: مسلسل بدا وكأنه صمم خصيصا للاحتفاء بهؤلاء المنخرطين للتو في لعبة الخيالات التلفزيونية.‏

رأس-غليص
رأس-غليص

شخصيا أملك سجلا حافلا بالذكريات،
ففي قريتي بريف دمشق كان هناك بيت واحد فيه تلفزيون،
الشيء الذي جعله مقرا خميسيا لجميع أهالي القرية،  ولن أنسى ذلك الشيخ وهو يضرب الأرض بعصاه شاتما غليص والساعة التي ولد بها، مطلقا بين حين وآخر عبارته المتأسية «اخص على الرجال»،
دموع النسوة التي ذرفت بغزارة تعاطفا مع حمدة وهي تودع حبيبها،
الشباب الذين يتسمرون أمام اطلالة رداد ليتقمصوا حركاته في اليوم التالي،
عمتي التي تظل، طيلة ليل الخميس ونهار الجمعة، تقسم بأن رداد لم يقتل أخاه زواد بل هو «العاطل مناع».‏

واحتاجت الأسطورة لتكتمل إلى شيء واحد فقط: أن يختفي المسلسل طيلة السنوات اللاحقة،
وهذا ما حدث بالفعل ليظل المسلسل بالتالي محفوظاً كجزء من الذاكرة العاطفية،
وبمنجى من أي نقد قد تأتي به سنوات النضوج التالية.‏

واليوم ها هو «رأس غليص» قد تم انتزاعه من شرنقته العاطفية،
ليتبدى بوجوده الواقعي الخالي من الأوهام: مجرد مسلسل بدوي مصنوع بطريقة شبه بدائية،
ويحكي قصة محملة بدلالات ساذجة، يؤدي شخوصها ممثلون كانوا، في معظمهم، مجرد هواة.‏

بل أكثر من ذلك: فقد تبين أن هذا المسلسل كان مؤسسا لنمط من الترميز الفج،
فقبيلة غليص هي العدو الغاشم، والقبائل المحيطة هي الوطن العربي، وبالطبع لن يتم القضاء على غليص إلا بوحدة العربان.‏

استعادة المسلسل الآن تشبه استعادة البعض، وقد صاروا رجالا كبارا ،
لقصة حبهم الأولى بعقل أكثر اتساعا وقلب أقل حرارة، حيث يكتشفون كم كانت بائسة ومثيرة للشفقة امرأة حياتهم الأولى، وأن السبب الوحيد لولههم هو أنهم كانوا سذجاً وأغراراً..

ولكن هل يوجد ما هو أكثر غلاظة من مثل هذه الاستعادة الباردة،!‏
وهل هذا تقييم منطقي ومنصف؟ هل يجوز محاكمة مسلسل أنتج منذ نصف قرن وفق معايير وشروط اليوم؟

الأقرب إلى الإنصاف وضع العمل في سياقه الزمني، ومقارنته بنتاجات الدراما المعاصرة له،
والانتباه إلى أن الريادة لا تعني حصانة ضد التقادم والتجاوز،
بل هي تعني أساسا فتح طريق أمام آخرين لا بد أن يذهبوا أبعد ويحققوا أكثر..

رأس-غليص
رأس-غليص

والواقع أن المسلسل كان له قصب السبق في أمور عدة،
أبرزها حشده لعدد كبير نسبيا من الممثلين، وذهابه إلى أماكن تصوير خارجية،
مستثمراً جماليات البادية من عناصر بصرية وصوتية.. وكذلك تقديمه لصيغة مبكرة من العمل المشترك،
حيث جمع عناصر مختلفة من بلدان عربية عدة: المنتج إماراتي، والمؤلف والمخرج سوريان، البطلة مصرية، والأبطال والممثلون من الأردن وسوريا، الموسيقى التصويرية لسوري، والغناء لمغنية أردنية..

ورغم عثرات البدايات، ومثالب الهواية ونقص الاحتراف، ورغم سذاجة الدلالات السياسية للعمل، فإنه امتلك عناصر نجاح أهلته لما كانه منذ نصف قرن: أيقونة.. ولو مع إضافة: «من نوع ما».

هناك قصة الحب العذبة، وقد شخصها ببراعة النجم الأردني أسامة المشيني والنجمة المصرية هناء ثروت،
هذه القصة التي جاءت نقيضاً لخطوط العمل الأخرى المليئة بالصراع الدموي وأعمال الخيانة،
أما نهايتها المفجعة فقد أججت تعاطف الجمهور،
وجعلته يوافق على الدلالة بحماس: فأشخاص أنقياء ورومانسيون كهذين العاشقين وغيرهما (ثمة قصص حب أخرى على الهامش) لا بد أن يكونوا ضحايا للواقع الكالح الذي صوره المسلسل.

وهناك الممثل السوري الكبير عبد الرحمن آل رشي،
والذي جسد في نظر كثيرين أول دور ناجح للشرير، ولقد غدا غليص بفضل آل رشي كابوساً مرعباً ذا حضور شديد الوطأة، وبضحكته المجلجلة ونظراته القاسية صار رمزا ووصفا شائعا للشر..
وباستعصائه على أعدائه الكثر أطلق هذا المثل الشعبي «شو مفكر حالك جايب رأس غليص؟!».

شعراء الربابة الذين غنوا أشعارا بدوية جميلة، والمطربة الأردنية سلوى ذات الصوت الشجي والتي أبكت الناس بأغنية «تقول حمدة»، والموسيقا التصويرية المؤثرة لسهيل عرفة..

والأهم أن الحبكة، على بساطة مقولتها العامة وسماجة دلالاتها، فقد حفلت بتفاصيل لا تخلو من إثارة،
وكانت الأحداث مفاجئة وغير متوقعة، مما جعل الانتظار الأسبوعي المتلهف أمراً مبرراً.

رأس-غليص

المسلسل من تأليف خالد حمدي وإخراج علاء الدين كوكش، وبطولة عبد الرحمن آل رشي، هناء ثروت، أسامة المشيني، نبيل المشيني، سلمى المصري، داود جلاجل، محمود أبو غريبة.. وهو من إنتاج تلفزيون دبي عام 1976

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة