بطرس غيث
ما الذي فعله الشامي ليثير كل ذلك الجدل؟ لم بات ظهوره قضية اللحظة؟
ما الذي جعل من شاب في بداية العشرينات عين العاصفة،
وميدان الآراء العامة والخاصة،
حتى لم يبق شكل من أشكال الزوابع الإعلامية إلا وثارت حوله؟
نقاد وموسيقيين وخبراء تضافروا لتشريح هذه الظاهرة وتحليلها وتفنيدها وتصنيفها فنياً وموسيقياً.
بعض المتسامحين ممن مالوا لمقاربة الموضوع من زاوية اجتماعية اعترفوا على مضض أن نوع فنه يلبي أذواق الأجيال الجديدة.
ما هو ملفت للنظر في هذه الحالة ليس الانقسام الذي أتى جواباً على ما قدمه ويقدمه، بل شدة هذا الانقسام، وليس شدته فحسب، بل توقيته المبكر أيضاً؛
“كَأَنّا خُلِقنا لِلنَوى وَكَأَنَّما حَرامٌ عَلى الأَيامِ أَن نَتَجَمَّعا”
كما عبّر الشاعر ذات يوم.
ما الذي يجري؟
قد تكون الهجمات الارتكاسيّة عند كل أغنية يطلقها الشامي،
أو عند كل ظهور إعلامي له، جواباً على حصوله على جائزة الأغنية المفضلة للعام 2023 في حفل Joy Awards في الرياض متفوقاً على أصالة وأحلام.
الفوز الذي عده البعض مبكراً وغير مستحق.
فهل من أساس فني لهذا الاعتقاد؟
أم أنه مجرد حكم أخلاقي يربط الاستحقاق بالمجهود، والمكافأة بالمعاناة؟
لنلق نظرة على الافتراض الثاني، بادئ ذي بدء.
من هو الشامي؟
عبد الرحمن فواز، كما يكشف عن اسمه للمرة الأولى علناً،
ضمن لقائه الأخير، والأول على التلفاز،
مع الإعلامي اللبناني هشام حداد، في برنامجه “كتير هالقد”.
بينما أتى لقبه “الشامي” إثر كونه الدمشقي الوحيد بين السوريين المقيمين في منطقة لجوئه، على حد قوله.
ناهيك عن ذلك، أي لجوئه المبكر الذي سلخه عن بيئته الثقافية في عمر التاسعة،
يذكر الشامي في ذات المقابلة محطات أخرى في حياته،
كوفاة شقيقه الأصغر أمامه في حادث سير، الأمر الذي دفعه لكتابة أول أغنية،
ما شكل منفذا وحيدا لجأ إليه للتعبير عما يعتريه، لتبدأ عندها مسيرته الفنية.
في وقت لاحق، يطلق أغنية “يا ليل ويا العين” والتي ستحظى حتى هذه اللحظة على أكثر من مئة وخمسين مليون مشاهدة على موقع YouTube بالإضافة للجائزة التي ذكرناها، والتي يهديها على الملأ لبلده سوريا.
والسؤال الذي يطرح نفسه:
إذا كان كهنة العذاب لا يلقوا بالاً لهذه الإحصاءات الملموسة،
إذ لا يستطيعون أن يروا فيها أبعد من تراكم مشاهدات لمراهقين ومراهقات منجرفين خلف الـ Trend (المتداول) غير مميزين الغث من الثمين،
أفلا تكفيهم تلك المحطات المأساوية في حياة الشامي قرابينَ لنجاحه؟
أليس من الأولى أن يستكثروا على طفل تلك الصدمات المبكرة قبل أن يستكثروا عليه المديح؟
لنلق نظرة على الجانب الآخر.
ما الذي يقدمه الشامي؟
من الضروري بداية تحديد بعض المنطلقات قبل الخوض في الإجابة على سؤال كهذا.
والمنطلق الأول يكمن في السؤال نفسه،
بمعنى أنه يجب أن نفصل، بداية، الفني عن الشخصي،ونحدق في أعمال الشامي لا في شخصه.
ثانياً، لو أردنا النظر في مفرد أعماله فعلينا بداية الافتراض – لن نقول الاعتراف فنثير حفيظة البعض- إنه عمل فني،
وبدون هذا الافتراض الأولي لن نصل بالطبع لأية نتيجة، اللهم إذا أردنا ذلك، وأكرر كلمة (أردنا).
أما ثالثاً، فيجدر بنا التنويه إنه عندما نقول عمل فني،
لا نقصد بالضرورة البعد القيمي والجمالي الذي عادة ما يلازم كلمة “فن” في بلادنا،
وإنما أن ننظر للعمل كمركّب كلي،
والتعامل معه على هذا الأساس،
وبذا لن يكون هناك جدوى من محاكمته بعد تفتيته وعزل عناصره عن بعضها البعض،
فبالطبع عندها لن نجد أن كلمات أغانيه تنهمر من نفس المعين الذي انهمرت منه كلمات سعيد عقل أو أن ألحانه تنحدر مباشرة من أولمب الموسيقى العربية حيث عبد الوهاب والسنباطي وسيد درويش،
بما في ذلك أداؤه ولهجته اللذان يشكلان مفارقة مع اسمه “الشامي” إذ لن نجد فيهما أي مؤشر على أنهما تكونا في مدارس أصول الغناء الشامية أو الحلبية مثلاً.
هل تعود الأحكام القاسية على النجاح المبكر للشامي إلى ربط كهنة العذاب بين المكافأة والمعاناة؟
مع ذلك، يبدو أن هناك من يتمسك بالتغني بمعايير منها ما هو مفترض ومنها ما هو منقرض، متجاوزاً واقع الإنتاج الموسيقي العربي وصناعة الأغنية في العقود الأربعة الأخيرة، مصطدماً بالشامي وكأنه الوريث الوحيد للفترة الذهبية للأغنية،
وحامل لواء الزمن الجميل، أو على الأقل ذلك ما يبدو من آراء وأصوات طالبته وتطالبه بإثبات نفسه على المسرح برفقة فرقة موسيقية،
وكأن المسارح العربية حلبات مصارعة، أو كأن الفرصة سنحت له سابقاً ليقوم بذلك ولم يفعل.
مآخذ أخرى عديدة، أحاطت الشامي، يبدو لنا من العبث بمكان تعدادها وتفنيدها،
إلا أنها لا تعدو أن تكون من نوع اتهامه بسرقة لحن أغنية “صبرا” من أخرى أرمينية، الأمر الذي فعله موسيقيون كبار كمحمد عبد الوهاب، والأخوان عاصي ومنصور، وآخرون معاصرون كوائل كفوري.
ولنفترض أننا سلمنا تجاوزاً بمشروعية كل تلك المآخذ،
بما فيها تحميل الشامي وزر الأصول دوناً عن غيره من المغنين المعاصرين،
لا يمكننا بحال من الأحوال، غض الطرف عن عدم جدوى مقاربة أعماله من ضفة الموسيقى العربية المفترضة أو من ضفة الأكاديمية المدرسية،
إلا إذا أردنا أن نضرب بعرض الحائط تاريخ الفن القائم فيما هو قائم على الإبداع والطفرات والتقلبات.
ليس دفاعاً عن الشامي
علينا إذاً أن نرى أعمال الشامي من ضفة تلك الأعمال نفسها،
والحال أننا لا نزعم هنا تكريسها – بما تحتويه من جدة وغموض وإبهام – كانعكاس لتجربة الشامي في شتات الثقافات والخلفيات والأسفار المتعددة وحسب،
بل كأبناء شرعيين للإنتاج الموسيقي المعاصر Music Production Modern منذ دخول الأخير العصر الرقمي The Digital Age في تسعينات القرن العشرين وحتى اليوم، أي مع دخول الـ Pro tools (الأدوات الاحترافية) والـ DAWs (أنظمة العمل الصوتية) حتى بات من السهل على المنتجين الموسيقيين العمل مع الأصوات الرقمية،
وإضافة تأثيرات ومعالجات مختلفة إلى الـ Mixes فما بالكم بالحال اليوم إذ نجد الإنتاج الموسيقي القائم على السحابة Cloud-Based Music Production والمدعوم بأدوات AI الذكاء الصنعي؟
بالمناسبة فإن بعض هذه الأدوات وغيرها متغلغل بقوة في مختلف الأغاني العربية المعاصرة،
بخلاف أن الأغاني تصدر باسم الملحن والموزع والشاعر،
بينما في حالة الشامي يذكر اسم Music Producer فؤاد جنيد في اعتراف يبدو الأول من نوعه لهذه الوظيفة.
أما على صعيد الكلمات، فيبدو أنها لم تسلم أيضاً من الاتهامات،
بوصفها غير مفهومة، إملاءً أو نطقاً،
بينما إذا نظرنا إليها من وجهة نظر الفن التجريبي أو الـ Underground سنجد أنها لا تشط عن مثيلاتها من الأغاني البديلة، التي يحسب لها تحرير الأغنية العربية من تبعيتها للشعر المقفى والموزون.
ولعلنا نصل هنا إلى نقطة، قد تفسر سر نجاح الشامي وجماهيريته وانتشاره الواسعين،
وهي توليفة أغانيه المركبة من عناصر متباينة: كلمات تنبثق من تجربته الذاتية، تركز فيما تركز على البعد الصوتي للكلمة، والبعد الرمزي للصوت على حساب تقاليد النظم والإنشاء؛
إنتاج موسيقي معاصر أليف وخفيف محبب للأذن،
ولهجة مختلطة تتنوع وتتلون بحسب مقتضى الأداء، وأخيراً أداء حساس ذو بصمة شخصية منفردة وواضحة.