كيف يبني مهندس الديكور مكاناً في خيال المشاهدين؟
تصميم وإنجاز الديكور لعمل درامي يحتاج إلى الجهد والبحث والتحضير ودقة التنفيذ للوصول إلى الصيغة المثلى والمُقنعة للمشاهد، وأحد أهم من عملوا في هذا المجال مهندس الديكور حسان أبو عياش خريج الدفعات الأولى من كلية الفنون الجميلة.
حسان أبو عياش فنان تشكيلي يمتلك تاريخاً طويلاً من العطاء في المجال الفني يمتد من أواسط ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، ويشمل عطاؤه أكثر من صعيد بما في ذلك رسم اللوحات وتصميم الطوابع والتدريس، وتصميم وتنفيذ الديكور للأعمال الدرامية والبرامج والمسرحيات.. ويعتبر من ركائز وأعمدة هذه المهنة الإبداعية، كما سبق ونال العديد من الجوائز الهامة.
تحفل الذاكرة بأسماء الكثير من الأعمال الدرامية التي حققت حضورها على الساحة وكان هو مهندس الديكور لها. ولكن كيف كانت بداية هذه المهنة معه، وكيف تطورت وما أسرارها وكيف يتم تصميم الديكور وفق خصوصية كل عمل، وما نقطة البداية فيه وما آليات التنفيذ؟.. كلها تساؤلات شكلّت محور الحديث معه، والبداية من انطلاقة تصميم وتنفيذ الديكور في التلفزيون مرحلة ستينيات القرن الماضي.
كيف كانت بدايات ديكور الأعمال الدرامية التلفزيونية وما دور الديكور المسرحي فيها؟
عملت في التلفزيون منذ عام 1965 وكان التلفزيون السوري قد بدأ قبل ذلك بعدة سنوات، وفي البدايات لم نكن نعرف أي شيء عن ديكور التلفزيون، وكان قبلي سعيد النابلسي وهو أول مهندس ديكور في التلفزيون، ولبيب رسلان ويحيى العظم ومصممة الأزياء هيفاء عربي كاتبي، وهم ممن أسسوا وبدأوا في المحطة التي كانت على الجبل، وأتى بعد فترة أنور الزركلي وأسماء الفيومي، واعتمدنا في عملنا آنذاك على بعض الأمور البسيطة.
كنا نتابع المسرح بشكل كبير خاصة أن المسرح القومي كان نشطاً في تلك الفترة، فدخلنا التلفزيون من باب المسرح، عملنا وفي ذهننا أن الديكور هو «ديكور المسرح»، أي أنه ثلاثة جدران وضمنها عناصر وكتل ومفروشات، وأذكر عند إنجاز الديكور بشكل مسرحي كان المخرج فيصل الياسري يقول لي «ينبغي ترك أبعاد ومسافات لإظهار العمق»، وبالتالي تعلمنا رويداً رويداً وقدمنا العديد من التجارب وطورنا من أنفسنا. وبعد عشر سنوات أرسلوني إلى ألمانيا ومن ثم بولونيا فأخذت فكرة أعمق وبدأنا بتطوير العمل في مجال تصميم الديكور. وقد جرت تلك المرحلة داخل الاستديو أيام الأبيض والأسود.
ما التطورات التي حدثت على الديكور فترة «الملون» خاصة أن تصوير «الأبيض والأسود» اعتمد على لونين فقط وما بينهما من تدرجات؟
بالفعل كنا نستخدم في الديكور ألواناً ضمن تدرجات «الرمادي» من الأسود إلى الأبيض، وعندما بدأنا بالألوان واجهنا عدة مشكلات، من بينها أن كاميرات التصوير آنذاك لم تكن حساسة للألوان بشكل كافٍ كما اليوم، فكان اللون البنفسجي، مثلاً، يفصل على الشاشة، ولم يكن هناك مونتاج، والمسلسل مؤلف عادة من ثلاث عشرة حلقة ويُعرض على مدى ثلاثة أشهر بمعدل حلقة أسبوعياً، أي أنه علينا كل أسبوع أن ننجز في الاستديو ديكور الحلقة ونفكه عند انتهاء تصويرها لنعيد تركيبه بعد سبعة أيام لتصوير الحلقة التالية، وقد تطورت الأمور مع الوقت واختلفت مع دخول المونتاج.
مع دخول مرحلة «الملون» في الثمانينيات، كان يجري التصوير ضمن الاستديو، وأذكر أنه في مسلسل من إخراج شكيب غنام ذهبنا إلى الغوطة وصورنا فيها بعض المشاهد، وأتينا منها بباب إلى الاستديو لاستكمال التصوير داخله. لم يكن هناك ديكورات خارجية، إلا أنه في السبعينيات أنجزنا الديكور لمسلسل «البيادر» إخراج دريد لحام وصورناه في بساتين التلفزيون التي كانت ممتدة للشيراتون اليوم، فالمنطقة آنذاك كانت عبارة عن بساتين حتى منطقة كيوان، ويمكن القول أن الديكور في تلك الفترة تميّز بالبساطة.
برأيك ما الذي يميز الديكور الداخلي عن الديكور الخارجي؟
بدأ التصوير الخارجي في التسعينيات وأصبحت المسلسلات «ثلاثين حلقة» من أجل شهر رمضان، ففي مسلسل «الخشخاش» وهو أول عمل للمخرج بسام الملا خرجنا فيه للديكورات الخارجية وصورنا في اللاذقية وعدة أماكن أخرى وكانت الكاميرات أصغر، ولكن في مسلسل «أيام شامية» وهو من إخراجه أيضاً تم تصويره كاملاً في «استديو2» بالتلفزيون حيث بنينا حارات وبيوتاً، وظن الناس أنها حقيقية، لأن الديكور جاء متقناً حتى أننا رسمنا بالفرشاة على الجدران والأرض كأننا نرسم لوحة، وأعطته الإضاءة حالة من الواقعية، لأنه حتى في الاستديو يمكن للإضاءة أن تمنحك الإحساس نفسه في الظلال وضوء الشمس وكأن التصوير خارجي، ونجح العمل من الحلقة الأولى وأحبه الجمهور.
وأرى أن الديكور الخارجي لا يزيد إلا في موضوع المناظر الطبيعية، بينما يمكن إنجاز ما تريد في الاستديو الكبير، وفي هذه الحالة يمكن أن توفرّ على الكادر قضية العوامل الجوية المختلفة.
أيهما الأفضل في البيئة الشامية، التصوير ضمن منزل حقيقي أو ضمن ديكور في الاستديو؟
البيت الدمشقي فيه تفاصيل من الصعب إنجازها ضمن الاستديو، بما في ذلك البحرة والياسمين والليمونة، وإن أنجزتها في الاستديو فلن تظهر كما لو أنها في البيت الحقيقي الذي بتنا نجد صعوبة في التصوير ضمنه لأن سكانه يجددون فيه ويضعون الألمنيوم والعناصر الحديثة الأخرى.
هل يتم بناء الديكور على أساس درامي بحيث تؤخذ بعين الاعتبار مجريات الأحداث والعلاقات الاجتماعية بين الشخصيات في العمل؟
عندما ندرس النص نتخيل الأماكن وأبعادها والعلاقة فيما بينها، فالناس لديهم قدرة على تخيل المكان لأنه مهم، في حين أن هناك مخرجين لا يلاحظون هذا الأمر أحياناً، وأذكر عندما بنينا ديكور «باب الحارة» على طريق المطار زار المكان مجموعة من الأطفال، فكانوا يعرفون أين الحلاق والسمان والمقهى من خلال مشاهدتهم للمسلسل.
عدد البيوت الدمشقية التي تُصوّر فيها غالبية «الأعمال الشامية» محدود، والطامة أنه يعرض في رمضان أكثر من عمل تم تصويره في البيت نفسه، فكيف تتعاطى مع الأمر ليبدو البيت مختلفاً عما هو عليه في الأعمال الأخرى؟
لا يمكننا إحداث تغيير في المكان لأن هذه البيوت أثرية، إلا أننا قد نضيف «عرايش»، ففي البيت العربي أضيف عريشة وهي مكان يمكن الجلوس تحته مما يُحدِث حالة من التغيير، وعندما يكون المنزل من الحجر الأسود قد نضع «ستريوبور» بخطوط ملونة ويُزال بعد التصوير. ولكن المشكلة اليوم أن هذه البيوت أصبحت أقل، وهناك من قص الشجر والياسمين فيها، كما تحوّل الكثير منها إلى مطاعم وفنادق.
ما خطوات تصميم الديكور منذ البداية وحتى انتهاء التصوير؟
الأهم هو النص، تقوم بقراءته وتفريغ المكان، وخلال القراءة قد تشعر أنه هنا ينبغي وضع نافذة أو باب وهناك دكان بقالة أو حلاق، وتتخيل أن الشخصية خرجت من هذا الباب لتصعد ذلك الدرج، وبالتالي مهندس الديكور يضيف رؤاه في كيفية إنجاز الديكور، وعندما تنجز المكان فأنت تدل المخرج على اللقطة فتقدم له مكانا يلائم النص لتسهّل له الحركة. ولكن أهمية الديكور خفّت حالياً، في حين أنه ينبغي على المنتج وضع امكانيات «صح» ليخرج الديكور «صح».
هل يتم تفريغ الأماكن كلها بما فيها الثانوية؟
أفرّغ كل الأماكن وأقوم بتبويب أن هذا البيت لأبي عبدو وذاك لفلان وهكذا.. وأعرف مستلزماتها كلها، وأرسمها وأنجز منظوراً أولياً للمكان أعرضه على المخرج وأشرح له ما سأفعله، وبعد أن يوافق عليه أو يطلب تعديلات معينة أرسم المخططات النهائية، وانتقل إلى مرحلة التنفيذ، وفيها ينبغي أن يوافق الإنتاج على التكاليف أو يختصر من الديكور، ودائماً نواجه مشكلة في الديكور بقضية التكلفة.
كيف يكون الحل عندما تصل مع الإنتاج إلى طريق مسدود فيما يتعلق بالتكلفة؟
يمكن أن تختصر من الأماكن ولكن لا تختصر من الجودة، فعوضاً من بناء حارة على مدى30 متراً فلتكن 20 متراً. واليوم هناك شخص مسؤول عن (السينوغرافيا) ويسمى أيضاً (الآرت دايركتر) الذي يمكن أن يضيف بعض الأمور كأن يقوم بتعتيق اللون، فكوادر السينوغرافيا معهم أشخاص يقومون بالتلوين، وهذا ما حدث في مسلسلي «حارة القبة» و»مربى العز»، حيث أتى فنانون من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية وقاموا بتلوين كل حجرة وأعطوا روحاً للمكان.
كيف تتم مرحلة التنفيذ؟ وما المواد التي يتم استخدامها في بناء الديكورات؟
أنجز ميزانية تقديرية واستشير فيها منفذ الديكور لأنه يعرف الأسعار، ونبدأ التنفيذ. وعادة ننفذ بالبانوهات الخشبية التي باتت اليوم إلى حد ما بدائية، لأنه أصبح هناك من يعتمد في أماكن أخرى على (سقالات الحديد) وتُدعّم بالحديد عوضاً من الخشب. والبانوه تسندُه من الخلف أخشاب وأثقال وقد يبلغ ارتفاعه 8 أمتار، لذلك يتم تثبيته جيداً لأنه يكون في الهواء الطلق.
ويوضع للديكور «خيش» ثم «جبصين» ويتم دهنه، وننجز له تأثيرات كأن نضع «ستريوبور» على أنه حجر، وهناك التأثيرات المتعلقة بالنباتات والأشجار، وأصمم شبابيك متنوعة ومختلفة. ولكن من الأهمية بمكان أن يأخذ العمل الفني وقته في التصميم والتنفيذ، وللإضاءة دور مهم مع الديكور فأحياناً تخفي عيوبه وأحياناً أخرى تظهرها وتبرزها.
كيف يتم التعاطي مع العمل التاريخي، وكذلك المعاصر الذي تتعدد فيه الأماكن الجغرافية؟
مما لا شك فيه أن الديكور الجبلي مختلف عن الصحراوي، والديكور العباسي مختلف عن الأموي، فهي مسألة تحتاج إلى بحث ودراسة وأن يكون لدى مهندس الديكور ثقافة، ففي مسلسل (العبابيد) صممنا الكراسي والأبواب والنوافذ اعتماداً على فكرة أنهم قد يكونون متأثرين بالرومان آنذاك، وبالتالي يمكن تنفيذ ديكور شرقي متأثر بالحضارة الرومانية.
بشكل عام لدينا مشكلة فيما يتعلق بالتوثيق ومعرفة كيف كانوا يعيشون في العصور العربية كالأموي والعباسي، فالأدباء والشعراء والمؤرخون لم يشرحوا عن المكان، لذلك نسعى لأن نبتكر ونتخيل.
ما الشروط الواجب توفرها ليؤخذ قرار بناء ديكورات كاملة ضمن استديو؟
منذ البداية يقترح مهندس الديكور ديكوراً يحتاج تكلفة ومدة زمنية معينة، ولكن الحارات كلها يتم بناؤها، ونادراً ما يصور مخرجو الأعمال الشامية في الحارات الحقيقية لأن شرط التصوير فيها صعب، وهو أمر مرتبط بالإنتاج والإخراج.
التطور التقي في مجال التصميم على الكمبيوتر وأفق الغرافيك، ما الذي يضيفه في مجال الديكور؟
هذا الأمر حساس، فقد ينجزون مدينة ويريدون وراءها جبلاً، وقد تجده أحياناً طبيعياً وأبعاده صحيحة، لكن تبقى مشكلة التنفيذ.