تدور أحداث فيلم “جنيات إنشيرين”، (The Banshees of Inisherin)، للمخرج والكاتب المسرحي الإيرلندي مارتن ماكدونا، سنة 1923 خلال الحرب الأهلية الإيرلندية، في جزيرة نائية، صغيرة ومعزولة، تعيش على هامش الحرب، ولا يصلها منها سوى أصوات رصاص تتناهى إلى سمعها من بعيد. لكنها تعيش، في المقابل، وعلى نحو ما حربها الأهلية الخاصة بها.
ومند فيلمه الطويل الأوّل “في بروج” (2008)، ومن بعده “المختلّون السبعة” (2012)، مرورا برائعته “ثلاث لوحات إعلانية خارج ميزوري” (2017)، وصولا إلى “جنيات إينشيرين” (2023)، يركّز ماكدونا على الشخصيات المعذبة التي تعيش أزماتها الوجودية الخاصة، في أماكن معزولة عن الحياة الصاخبة غالباً.
وبسيناريو في غاية البساطة والتكثيف، وبأسلوبه الأثير المعتاد، الذي يغلب عليه طابع «الكوميديا السوداء»، يخالطه بعض الغرائبية في الأحداث، لمخرج هو ابن المسرح العبثي أساساً، ينجح ماكدونا في نقل تفاصيل الحياة اليومية؛ المملة والرتيبة للجزيرة، والتي تتبدّى أحياناً في غاية العبثية والقتامة. وقد فاز ماكدونا بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان فينيسيا السينمائي، حين تم عرض الفيلم لأول مرة أواخر العام 2022.
وإلى ذلك، فإنّ الفيلم غني بالحكايا والأساطير الفولكلورية الإيرلندية، ومنها أسطورة «جنيّات انشيرين» (التي تسمّى الفيلم بها). كما أنه مشبع (بصرياً) بالدلالات والرموز الدينية؛ صلبان، وتماثيل العذراء التي تراقب ما يجري، ولكنها تدير ظهرها غالباً إزاءه، في دلالة على أنّها غير فاعلة فيه. كما يمكننا أن نلاحظ أنّ المناخ مكفهر غالباً، ولا أشجار في إنشيرين، مع غياب لافت للأطفال والأسرة التقليدية، بما يوحي بغياب «المجتمع الفعلي الحيوي»، وانعدام الأمل في التجدّد والتغيير.
كل هذه التفاصيل والإحالات تسهم في إمكان وجود قراءات وتأويلات متعدّدة للفيلم. أحدها سيكتفي بقراءة المشاهد والحوارات بوصفها تخصّ هذه الجزيرة فحسب. وبعضها قد يعتبر أن الجزيرة تحولت في الفيلم إلى «مكان رمزي»، أو «مجتمع مصغر»، يصلح لأن يكون معبّرا عن مشكلة الانسان وأزماته الوجودية عموماً.
حكاية درامية بسيطة
تبدو الحكاية الدرامية في الفيلم في منتهى البساطة، فهي تدور حول صديقين سابقين؛ كولم (أداء بريندان غليسون)، وبادريك (يؤديه كولن فاريل في واحد من أهم أدواره)، اعتادا لسنوات طويلة على تزجية الوقت معا في حانة القرية. وفجأة يقرّر كولم انهاء العلاقة مع أعز أصدقائه، فيما يرفض الآخر ذلك، ويحاول جاهدا التمسك بها. وعندما يضغط للحصول على سبب مقنع لإنهاء العلاقة، يكون جواب كولم قاسيا وفحواه؛ «إنك ببساطة شخصٌ ممل يتحدث لساعات عن روث أنثى حماره الصغيرة “جيني”، ولم أعد أجد في رفقتك سوى مضيعة للوقت الذي أفضل إنفاقه في أمور أخرى أهمّ؛ كتأليف قطعة موسيقية تخلد اسمي قبل أن يدركني الموت».
وبين محاولات بادريك المتكررة لاستعادة صديقه، ورفض الأخير لذلك بشكل جذري، حيث يحذّره بأنّه سيقطع أصابعه إصبعا إصبعا في حال توجّه إليه بالكلام ثانية، تتصاعد فصول الحبكة الدرامية وصولاً إلى النهاية الكارثية، المتمثلة بقطعَ كولم لكامل أصابع كفّه، أمام إصرار صديقه وعدم كفّه عن محاولة التكلم معه.
ويبدو «قطع الأصابع» فعلا غرائبياً لإنسان يهتم بالموسيقى والعزف، فهي أداته الوحيدة لتحقيق حلمه وترك بصمة موسيقية خاصة به. فهل يدعونا هذا المصير، (وإن يكن على نحو مضمر)، بأنّ على الحضارة، (الفن، الثقافة، الموسيقى..)، أن لا تقطع صلتها باللطافة والصفات البدائية الجميلة في الإنسان، لأنها تفقد بذلك «الأدوات» التي تنجز بها إبداعاتها؟.
يجدر بالذكر هنا أنّ بادريك هو رجل ريفي بدائي، يعيش مع حيواناته في البيت نفسه تقريباً، وقد اكتسب منها صفات الطيبة والبساطة، ويظهر ذلك جلياً في تقاسيم وجهه التي تدلّ على البراءة والسذاجة والأفق المحدود، (وقد نجح فاريل في تقمص هذه الشخصية باقتدار واضح، وفاز عنها بجائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي عن جدارة واستحقاق). وذلك قبل أن يبدأ في التحوّل التدريجي واتباع الحيل لبلوغ مأربه، وذلك عندما يكذب على عازف قادم إلى الجزيرة للعمل مع كولم، زاعماً أنّ أباه صدمته عربة خبز، توفي على إثرها. وحين يقصّ هذه الحكاية الكاذبة على الفتى دومينيك، (المجنون الذي يمثل عادة ضمير الجماعة)، فإنّ الأخير ينصرف عنه قائلًا: «كنت أحسبك بريئا، فإذا أنت مثلهم»!.
ولكن التحول الجذري في شخصية بادريك يحصل بعد موت جيني، المُحبّبة جدا إليه! إذ يطلق العنان لأحقاده وضغائنه، ويلجأ إلى إضرام النار في بيت صديقه انتقاما لأتانه. والغريب في الأمر هنا، هو أننا نشاهد كولم جالساً لا يحرّك ساكنا حيال حرق بيته، على خلفية شعوره بالذنب لتسببّه بموت الحمارة.
أما كولم فهو نموذج نقيض لصديقه، (كما لو أنه يمثل طوراً أعلى من التطور البشري)، فمنزله يكتظ بالتحف والتماثيل والأقنعة والرموز الفنية. وقطيعته مع صديقه تمثل شكلاً من أشكال الاحتجاج على الوضع الرتيب والراكد في الجزيرة، وكذلك الضجر الشخصي الذي يعيشه، فضلاً عن تعبيرها كذلك عن سعيه للتجديد في حياته، والتوقف عن هدر وقته وعمره في علاقة مملة وعبثية مع بادريك.
أسئلة وجودية أزلية
وهكذا، فإن القطيعة بين الصديقين يحوّله ماكدونا ببراعة إلى خصامٍ وجوديّ فلسفي (أزلي) يطاول جوانب عميقة في العلاقات والطبائع البشرية، مثل الصداقة والألفة والعناد والوحدة والضّجر وصولاً إلى الحرب والقسوة والألم والموت؛ هل بالإمكان أن تحتمل الحياة وحدَك من دون وجود صديق إلى جانبك؟ هل علينا أن نكون طيّبين ولطيفي المعشر تجاه الآخرين فقط، أم علينا أن نبحث عن انجاز ما يُخلدنا؟ أيّها هو الأهم، الذي يُبقي أثرا يُذكر به صاحبه؛ الطيبة واللطافة أم تأليف قطعة موسيقيّة؟ وحسب رأي بادريك، في حوار مع صديقه، فإنّ اللطافةَ هي ما يبقى، في حين يرى كولم أنّ الموسيقى هي ما يبقى، «موزارت هو الذي نتذكّره الآن، لا اللطافة والدّعة»!.
وأعتقد أنّ الفيلم ينتصر في نهاية المطاف للصّداقة، أو بالأحرى لنوع محدد منها. ففي أحد المشاهد يقتحم بادريك بيت كولم، فيجده وهو يراقص كلبه بعد تأليفه أحد ألحانه. وعندها يبادره بالقول، (معاتباً وشامتاً)؛ «ها أنت تراقص الكلب، ما يعني أنك تحتاج إلى آخر». فقد يكون الآخر هو «الجحيم»، حسب المعنى الذي يقدمه أحد تيارات الفلسفة الوجوديّة، ومع ذلك فلا مفرّ من وجوده في حياتنا، ليشاطرنا الهناء والشقاء في آنٍ معا.
لا مكان للمثقفين في إنشيرين
ولكن مشاطرة الآخر لحياتنا يحتاج إلى حد أدنى من التفهم والتقبل والتسامح، وهذا ما بدا أنّ سكان الجزيرة يفتقدونه. فهم على العموم منغمسون في الخطيئة ويميلون، في الوقت ذاته، إلى إدانة الآخر. وتمثل هذا على وجه الخصوص في نبذهم للفتى دومينيك، وهو الأكثر حاجة إلى الحماية والرعاية بينهم، ليس بوصفه مُعاقاً فحسب، بل كونه يتعرض إلى التعنيف والضرب دائما من والده الشرطي، (الفاسد والمتسلط والشهواني والوغد).
ولذلك فإن شيبان شقيقة بادريك، (المثقفة المولعة بالقراءة والشخصية الأكثر حساسية تجاه أحكام الآخرين)، تقرر في آخر المطاف أن تترك القرية، لتنجو بنفسها من مكان باتت تشعر بأنها لا تنتمي إليه. وخصوصاً أنها فكرت بالانتحار بعد أن أخبرها الشرطي أنّ “لا أحد في الجزيرة يحبها”.
عندها يظهر لها دومنيك (أدى دوره ببراعة باري كيوغان) فجأة، وفي مشهد قوي ومؤثر، تنتقل فيه الكاميرا بسلاسة بين دومنيك المرتبك والمحرج، الذي يعوزه القدرة على التعبير، وبين شيبان التي لا تريد أن تجرح مشاعره وتتعامل معه بمنتهى اللطف، ولكنه يتشجع أخيراً ويسألها إن كانت تفكر في حبه؟ وعندما تُلمّح له إلى فارق العمر بينهما، يعود ليسألها بسذاجة طفولية: «ماذا عندما أصبح في مثل سنّك؟». وحين تكتفي بتحريك رأسها مع ابتسامة حزينة، يفهم أخيراً أنها ترفض عرضه، فيُقدِم هو على الانتحار، وكأنه يفعل ذلك انقاذاً وافتداءً لها من الانتحار الذي أوشكت عليه قبل قليل.
«البانشيّات»: نذيرات الشؤم والموت
يتكرر في الفيلم ظهور البانشي، (وهي شخصية أسطورية لامرأة تنذر بالشؤم والموت تبعاً للفولكلور الإيرلندي)، وترجمت هنا مجازاً بـ«الجنيّة»، مع أنها تعني بالضبط “الجنية النابحة”، التي تصرخ في البراري بالنبوءات المخيفة والمميتة. ولكن الفيلم يكتفي بظهور السيدة ماكورميك (شيلا فليتون)، كعجوز شكلها مريب يدعو إلى التطير ويثير الذعر. أو هذا ما يقتنع به سكان الجزيرة على الأقل، خاصة النساء منهن.
ولكن عنوان الفيلم يشير إلى وجود «بانشيات» أخرى، وليس ماكورميك وحدها. فهل وجودها وحده يشكل «كناية» كافية عن «أسطورة الجنيات» عامة، والقناعة المترسخة لدى سكان الجزيرة حول وجودهن ودورهن؟ أم أن العنوان يريد أن يوحي بوجود شخصيات أخرى تقوم بدور «البانشيات»، مثل السلطات النافذة في الجزيرة؛ (الشرطي الفاسد والكاهن)، حسب إحدى القراءات التأويلية للفيلم، مع لفت الانتباه إلى التوافق الدائم بينهما.
ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن تطور الصراع بين بادريك وكولم، لا دور فيه لماكورميك أو للبانشيات، أو لأي جهة خارجية، إنما هو صراع يتنامى وفق منطقه الداخلي والسيرورة الطبيعية لتطور العلاقة، (أو تطور الانسان بصفة عامة)، التي انقلبت من علاقة حميمة بين الصديقين إلى علاقة ضدية وتناحرية.