جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيوني(تاج) عودة الإنتاج الدرامي السوري إلى الإتقان

(تاج) عودة الإنتاج الدرامي السوري إلى الإتقان

نور الأتاسي

جرت العادة أن تُقام الندوات التلفزيونية بعد انتهاء عرض مسلسلات الموسم الرمضاني لمناقشتها مع صُناعها، ومع النقاد والصحفيين المختصين. تراجعت هذه العادة حدَّ الاندثار مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعية، والتي أصبح روادها جميعا بمثابة نقاد وصحفيين واعلاميين. ومع أول أيام شهر رمضان وبدء عرض أولى الحلقات ضجت مواقع التواصل بالتعليقات، إيجابيةً كانت تكيلُ المديحَ بشكل مبالغ أم سلبيةً تنتقد وتذم بشكل فاضح.
ولأنّ المسلسل التلفزيوني الرمضانيّ، المؤلف من 30 حلقة، يحتاج إلى 3 حلقات على أقل تقدير قبل أن يتمكن من تقديم الخطوط العريضة لحكايته ورسم الشخصيات الأساسية، تأتي التعليقات الأوليّة مبنيةً على انطباعات شخصية في أحسن الأحوال، إن لم تصل إلى مجرّد الرغبة في التقريع بلغةٍ قاسية أو التمجيد بلغة مبالغ فيها. وعلى الرغم أن هذه التعليقات قد تصيب أحياناً بشكلٍ لا يمكن إنكاره، لكن تبقى النوايا في الغالب هي المحرك الأساسي الذي يحول دون إعطاء الأعمال فرصةً حقيقيةً.
أما الآن وقد انتهى الموسم الرمضاني الدرامي المزدحم، والذي تابعت فيه 3 أعمال فقط قرأت وشاهدت أغلبَ ما كُتبَ عنها أثناء عرضها، أجدُ أني قد أشترك رأياً مع بعضها وأختلف تماماً مع بعضها الآخر. وهنا لا بدّ من وقفةٍ موضوعية نقدية تتناول هذه الأعمال.
لا أدعي موضوعيتي الخالصة أو تجردي الكامل من أي مشاعر شخصية ناتجة عن مجموعة من العوامل خاصةً فيما يتعلّق بالدراما السورية على وجه الخصوص، والتي آثرت الابتعاد عنها في السنوات الأخيرة لعدم نجاحها إجمالاً في الطريقة التي طرحت من خلالها الواقع السوري الشديد الخصوصية لأسباب نعرفها جميعاً.

تكرار التعاون الفني
بدأ الترويج لمسلسل (تاج) زمناً قبل بدء العرض من خلال مجموعة اللقاءات مع القائمين على الإنتاج “شركة الصبَاح إخوان”، حيث أذيع أن تكلفة الإنتاج هي الأعلى في تاريخ الدراما السورية، فقد وصلت إلى ما يقارب 8 ملايين دولار.
لكنّ أول الأسباب التي دفعتني إلى متابعة العمل هو كاتبه،
زميل سنوات الدراسة في قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق: عمر أبو سعدة الذي نجح العام الماضي في أول أعماله الدرامية التلفزيونية كمؤلف لمسلسل (الزند) – إخراج سامر برقاوي،
بتقديم فترة زمنية تعود إلى نهاية القرن 19 وحكاية شاب هو عاصي الزند (لعب دوره الفنان تيم حسن)،
الذي استطاع التعامل ومن ثم التمرد على الجو الإقطاعي السائد في تلك الفترة. فقدم نصاً متماسكاً وقوياً وحقق نجاحاً وجماهيرية رغم بعض الهفوات والعيوب.

هذا النجاح الذي حققه صُناع مسلسل الزند (عمر أبو سعدة – تيم حسن وسامر برقاوي مع شركة الصبَاح إخوان) العام الماضي دفعهم إلى تكرار التعاون هذا العام من خلال مسلسل (تاج).

مسلسل تاج
مسلسل تاج

تدور أحداث (تاج) في أربعينات القرن العشرين لتغطي نضال الشعب السوري في مواجهة الاحتلال الفرنسي من أجل تحقيق الاستقلال للبلاد، وهي فترة غنية بالأحداث توحد فيها السوريون حول حب الوطن وضرورة استقلاله.
دمشق 1945، ورغم قساوة احتجاجات تلك المرحلة، والتي تعرف أيضا باسم انتفاضة الاستقلال، تطورت،إلى درجة دفعت بقوات الاحتلال الفرنسي لقصف دمشق بالمدفعية واحتلال مبنى البرلمان. عندها تدخل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل مما أدى إلى وقف قصف العاصمة وعودة القوات الفرنسية إلى الثكنات خارج المدن، لتبدأ بعدها المفاوضات الثلاثية التي أدت إلى جلاء القوات الفرنسية عن سوريا وزوال الانتداب نهائيا في 17 أبريل 1946.
دمشق في تلك المرحلة كانت “سيدة العواصم القديمة، تشبه كثيرا امرأة في غاية الجمال” كما يصفها الكاتب والصحفي أ. نصر الدبن البحرة في كتابه “دمشق في الأربعينات وعبر القرون”. يحكي المؤلف عن حجارة دمشق وسواقيها، عن أشجارها وبساتينها وحدائقها، بيوتها وحاراتها وحماماتها، مساجدها وكنائسها، أسواقها وأروقتها وأحيائها ولياليها، عن سكانها وتنوعهم وعاداتهم، وعن تغلغل الروح الوطنية لديهم والاهتمام بالشأن العام وعدم الإنكفاء على (الأنا).

مسلسل تاج
مسلسل تاج

نجح عمر أبو سعدة في بناء شخصية “تاج الدين الحمال” التي لعبها الفنان تيم حسن، بحيث تماشت مع الروح الوطنية التي تحدث عنها أ. نصر الدين البحرة. فبرز “تاج” من خلال العمل الذي يحمل اسمه كمحرّكٍ أساسيّ للأحداث والمظاهرات وعمليات الاغتيال ضد الضباط الفرنسيين.
“تاج” ملاكمٌ دمشقي يمتهن الخياطة وينتمي إلى منظمة القمصان الحديدية التي واجهت الاحتلال الفرنسي في ثلاثينات القرن الماضي ويُلقب بالمقص. يتخذ مع مجموعة من الفدائيين من نادي الملاكمة مركزاً لاجتماعاتهم وحياكة مخططاتهم. مهمتهم اغتيال الضباط الفرنسيين وإزعاج السلطات، ليكون المقص كابوسا للفرنسيين والمطلوب رقم واحد لديهم.

مسلسل البطل الواحد – Hero
قدم الفنان تيم حسن شخصية “تاج” ببراعة متقنا أدواته كلاعب ملاكمة ابتداء من مشيته ووصولا إلى انفعالاته عند الغضب. إلا أنّه في أدائه أعادنا إلى شخصياتٍ قدمها في أعمال سابقة، فلم يبدُ أن أداءه في “تاج” حمل أيّ جديدٍ يميّزه عن شخصية جبل التي قدمها في سلسلة (الهيبة)، أو شخصية “عاصي الزند” في مسلسل العام الماضي (الزند). حافظ “حسن” على لعبته في استخدام المصطلحات واللوازم الكلامية المتهاوية لغوياً والتي لا تنتمي إلى البيئة الدمشقيّة، خاصة وأنه كما تابعنا ابن هذه البيئة من خلال مكان إقامته في حارات مدينة دمشق القديمة ومكان عمله في ساحة المرجة وصداقاته مع الصحفيين والتجار والسياسيين والمثقفين. وكان من الأجدى لو تمكن من إيجاد حلولٍ مختلفة للشخصية فلا ينجرف وراء الشعبية التي تحققها هذه الإفيهات بين جمهور السوشال ميديا، خصوصاً لمعرفتي بكاريزما وإمكانيات تيم حسن كممثلٍ حقق جماهيرية واسعة وأثبت جدارته ونجوميته.
ولما كان العمل يحمل اسم بطله تاج، فهذا يعني أننا أمام عمل البطل الواحد_ Hero ذي الجاذبية والسحر، الذي يلتقي عنده الجميع..رفاقه الملاكمون، صحفيون (سليم: كفاح الخوص) – سياسيون (شفيق: سهيل جباعي) – مثقفون (نزيه الشهبندر: ) – أطباء (ماريون: نتاشا شوفاني) – جامعيون (حنان: دوجانا عيسى) حتى بنات الليل (زيزي: نورا رحال) – الممثل العسكري للمندوب السامي في دمشق (الجنرال جول: جوزيف بو نصار) – الضابط في الجيش السوري التابع لحكومة فرنسا (زكريا: إيهاب شعبان) – الاقتصادي والتاجر الدمشقي (رياض بك جوهر: بسام كوسا)..

مسلسل تاج
مسلسل تاج

يختصر العمل بذلك شخصية الثائر الوطني الدمشقي في شخص الملاكم القبضاي الزكرت، وكأننا نشاهد نسخة من شخصية العقيد في أعمال البيئة الشامية لكن ضمن حبكة أكثر تطورا وتشويقا، وإنتاج أكثر ضخامة، وصورة وإخراج أهم فنيا.
حتى شخصية رياض بك التي لعبها الفنان بسام كوسا ببراعته المعتادة، كان من غير المبرر منطقيا أن يتصارع هذا التاجر الذي يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة في مجتمعه بحكم نفوذه المالي مع الملاكم تاج حتى لو كان على حب امرأة. أما إبراز شخصية الاقتصادي الدمشقي من خلال رياض بك كعميل وجاسوس لصالح الاستخبارات الفرنسية، دون أن يكون هناك تركيز على وجود شخصيات إيجابية أخرى تقدم الدور الوطني لتجار دمشق الذين لعبوا دورا أساسيا في استقلال سوريا ودعم الحراك الوطني الشعبي، إجحاف في حق تجار دمشق الذين يمثلون شريحة واسعة من هذا النسيج الوطني.

إبراز دور المرأة السورية

احتل مسلسل (تاج) مراتب أولى ضمن المسلسلات الأعلى نسبة مشاهدة في الموسم الرمضاني الدرامي بسبب نجومية وجماهيرية نجميه تيم حسن وبسام كوسا، وضخامة إنتاجه على مستوى الديكور والعناصر الفنية الأخرى التي بنيت خصيصا لمقاربة مدينة دمشق في تلك المرحلة بساحاتها وشوارعها والترمواي الذي كان موجودا في الأربعينات ولم يعد موجودا اليوم.
هذه الرؤية البصرية الرائعة التي تضاهي الإنتاجات السينمائية قدمها مدير التصوير والإضاءة البولندي زبيغنيو ريبتشنسكي في ثاني تجربة له مع المخرج سامر البرقاوي بعد مسلسل (الزند)، إضافة إلى مجموعة من الأعمال مع مخرجين آخرين شكلت علامات فارقة في تاريخ الدراما السورية.
ولعلّ أحد العناصر الهامة أيضاً التي عزّزت حضور العمل بين الجمهور هو إبراز دور المرأة كفاعل ومؤثر في المجتمع الدمشقي في نضاله ضد الاحتلال في تلك الحقبة مما يكسر الصورة النمطية للنساء التي قُدمت في أعمال درامية أخرى غطّت نفس المرحلة، وبحبكة مشوقة وتصاعد في الأحداث متقن مع نص الكاتب عمر أبو سعدة.
وأخيرا قيادة المخرج سامر البرقاوي الذي أدار كل عناصر العمل ببراعة وقدم شخصيات من لحم ودم تنتمي إلى تلك المرحلة بأشكالها الطبيعية مما انعكس على انسجامنا مع هذه الشخصيات. وتقديمه الشخصيات الفرنسية والإنكليزية تتحدث بلغاتها بدرجة متقنة وهو مالم نشاهده في أعمال سابقة.

مسلسل تاج
مسلسل تاج

مسلسل “تاج” أعادنا نوعاً ما إلى ألق الدراما السورية الذي نفتقده ونشتاق الشغف الذي حمله، ونأمل أن يكون في نجاحه إشارة إلى بداية عودة الإنتاج الدرامي السوري إلى الإتقان الذي كان عليه سواءً على صعيد الشكل أو المضمون.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة