جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيوني"تاج".. عن دمشق والنسيان والذاكرة ورحلة البطل

“تاج”.. عن دمشق والنسيان والذاكرة ورحلة البطل

هند علي

لم يكن مُفاجِئاً أن يثير المسلسل التلفزيوني “تاج” الذي عُرض في رمضان 2024،
حالةً استثنائية من التفاعل،
جعلته متفوقاً بشكل واضح في شحذ انتباه واهتمام الجمهور على اختلاف مستوياته وخلفياته الثقافية والمعرفية.
ذلك الذي يريد أن يسمع ويرى قصة تقدم له صراعاً بين الخير أو الشر أو قائماً على استخدام السلاح أياً كانت أطرافه، أو ذاك الذي يكفيه أن يكون “تيم حسن”، أو “بسام كوسا” في بطولة العمل ليظفر به مشاهداً مخلصاً ووفياً،
أو أولئك الذين يرتبون أولويات مشاهداتهم خلال الموسم الرمضاني بحسب الترويج السابق للعرض، فتفوق في ذلك “تاج” وعمل أو اثنان غيره.

حالة استثنائية

حرض “تاج” متابعيه على البحث أكثر في السياق الزمني الذي ولدت فيه قصته وشبت،
وحفزهم على تتبع الخط الزمني الذي تصعد فوقه الأحداث. فلم تعد تقرأ في ردود الأفعال المرتبطة بالعمل فحسب، بل ما هو أبعد من ذلك بكثير.. هل استطعت إحصاء كم مرة قرأت عن فندق أمية وحقيقة وجوده في ساحة المرجة خلال المرحلة الزمنية التي يتناولها العمل؟ هل أستطيع عد الأشخاص الذين نزلوا إلى الساحة ليتحققوا من العبارة المنقوشة على عامود المرجة أو “خازوق المرجة” – إن صح التعبير – ولم يكونوا قد سمعوا عنها في أي وقت سابق؟  هل بإمكاني تتبع أعداد المنشورات والتعليقات ومقالات الرأي التي أصبحت كلها ذات سمة واحدة خلال عرض العمل، تستعيد شكل سورية في مرحلة ما قبل الاستقلال، وتناقش في تفاصيل دخول التراموي لأول مرة إلى دمشق، وفيضان نهر بردى، وحكاية كل مبنى صوره أو جاء على ذكره العمل وما يزال صامداً حتى اليوم، وإن فقد جزءاً من هويته وشاخ بتراكم الإهمال لا العصور – كما يفضل الكاتب حسن سامي يوسف توصيف المدن التي تموت – هل أستطيع عد الأشخاص الذين راحوا يسردون المقارنات، بوجهات نظر مختلفة، لا تخلو من عرض السياق التفصيلي لكل حدث صغير تضمنه العمل، أو كم وسيلة ومنصة إعلامية راحت بحسب سياساتها وتوجهاتها تقارب العمل وتحلل مضامينه ورسائله الخفية؟

إذاً، هي حالة غير مسبوقة صنعها العمل، جعلت “تاج” يقفز بذكاء فوق قصته نفسها، دون أن يزعج جمهوره الذي يريد القصة أولاً وأخيراً،  وترك للمشاهد بدلاً عن ذلك صورة تشبهه، خاصة به، لم يعشها حقاً، ولكنها لطالما كانت جزءاً منه، جزءاً يبعث فيه حنيناً غريباً، ولكنه حقيقي وأصيل، أشياء ظن أنها غفت، أو لا تعنيه.

صون لذاكرة الشعوب

أتى العمل في مرحلة اتسعت فيها المسافات الفاصلة ما بين الجيل الحالي، وكل ما يرتبط بذاكرتهم ومعرفتهم بهويتهم وتاريخهم، جيلٌ لا يمكن أن تقنعه بأهمية قراءة التاريخ المرتبط به ومعرفته من خلال الورق المكدس كتباً ومراجعاً، ولكن بإمكانك أن تقدم له بطلاً شعبياً وقصة درامية ليتم شحذ انتباهه واهتمامه لتلك المرحلة الزمنية الجوهرية من الأرض التي ينتمي لها، ومحاولة ربطه بها. لم يقدم “Vikings”،على سبيل المثال، عملاً يستثمر في جزء هام من تاريخ الدول الإسكندنافية القديم، ليصنع قصة، بل أصبح بمثابة جزء من هوية سكان تلك الدول اليوم، تاريخاً يفخرون به ويعتزون بوجوده، وإن كان دموياً، وقس على ذلك مجمل الأعمال التلفزيونية والسينمائية، التي لا تستثمر في التاريخ لصنع قصة فحسب، بل أيضاً لتخلق القناعات والتصورات والآراء، إما ذلك، أو إعادة تذكير لما تخشى الأمم نسيانه عن نفسها.

ملاك كنعان
تاج

النص في تاج

لم ينجح النص في خلق حبكات مناسبة مرتبطة بتغير وتطور الشخصيات والأحداث، ولكنه لم يكن ضعيفاً بالمستوى الذي يُوصَف به نصٌ ضعيف آخر، ومن المجحف القول إن نص عمر أبو سعدة هو العنصر الأقل نجاحاً في العمل، ذلك أن أحدهم يعرف الإبداع في عملية رواية القصة، على أنه التفكير بالقصص التي لم يسبق لأحد أن فكر بها. لا يعني ذلك أن قصة البطل الشعبي الذي يواجه عدواً ويعاني من أجل هدف محدد، هي قصة لم يسبق طرحها، وإنما الحديث هنا عن العالم الذي اُختير وضع ذلك البطل وحكايته فيه، المكان والزمان وارتباطهما بمراحل من تاريخ مجهول بالنسبة لكثر عن البلاد، فمثلاً، قدم عمر أبو سعدة نص “الزند
في رمضان الفائت، وقد روى فيه حكاية بطل شعبي ومزارع متمرد يعيش تحت بطش وسلطة الإقطاعيين في القرن التاسع عشر أيام السلطة العثمانية، فقدم جزءاً من تاريخ منسي، وحرض، كما هي الحال اليوم في “تاج”، على القراءة أكثر في تلك المرحلة الزمنية ومعرفة ماهيتها وجوانبها وكل ما له صلة بها. ارتكز أبو سعدة مجدداً في “تاج” على قصة أخرى لبطل شعبي من زمان ومكان آخر ضمن الجغرافية نفسها، ومن المنصف القول، إن أبو سعدة رفقة صناع العمل كلهم، أسسوا لحالة مختلفة خاصة في إنتاجهم الدرامي، لها طابعها الخاص والفريد.

رأى الكاتب “فرانك دانيال” أن الكتابة الإبداعية ينبغي أن تستند إلى بشر حقيقيين، وقدم “تولستوي” نصيحةً للكتّاب تساعدهم في ابتكار شخوص قصتهم بقوله: “قم ببيع أصدقائك وجيرانك وأقربائك”، وقد مُلئت أعماله بملاحظات تظهر كيفية قيام الكاتب بربط موضوع التشخيص بأصدقائه، ولعل هذه أحد أهم النقاط التي تمكن من خلالها “تاج” الوصول للناس بهذه الطريقة، فهو إلى جانب جمعه ما بين المستويين المعرفي والعاطفي، وإشراكه للجمهور بنجاح في حياة الشخصيات وصراعاتها، وصولاً للامتزاج بألمها ومعاناتها وإخفاقاتها ونصرها وأقدارها، فهو إلى ذلك، قدم لهم شخصيات تشبههم، ومنهم، شخصيات لم تعد موجودة في عالم الحاضر، ولكنها تقربهم، قرابة الدم.

أمر آخر في بنية النص، إذ من السهل جداً تتبع خط رحلة البطل في قصة أبو سعدة عن بطله الرئيسي “تاج الدين الحمال”، بحسب مراحلها المتعارف عليها، بدءاً من توصيف عالم البطل الاعتيادي، ونداء المغامرة الذي يحفزه ويحرضه لدخول الأحداث، وتردده ورفضه في البداية، ثم اجتياز العتبة الأولى في الرحلة، وخلق حيوات لأعدائه وحلفائه وأصدقائه، ثم دخول الصراع، واختباراته، وكيفية اجتيازه لها، والعودة بعد النصر أو تحقيق الهدف إلى العالم الاعتيادي نفسه، بعد أن دخل البطل العالم الفائق غير الطبيعي المتمثل بالصراع نفسه. وإذ يقول الكاتب “جون فوسكو” في نص “البنادق الفتية” عن القوة الأهم لبطل القصة الدرامية: “لديك ثلاثة أو أربعة أصدقاء جيدين وهذه هي أكبر قوة ممكنة”، فإن هذه القوة التي منحها أبو سعدة لبطل قصته “تاج”، وأيضاً لـ “عاصي” في “الزند”، والتي أُديرت بكفاءة على صعيد اختيار الممثلين الحاملين للبطل وأصدقائه وأعدائه، في كل من العملين.

ملاك كنعان
ملاك كنعان

الصورة في تاج

أما عن الصورة التي قدمها العمل، وإذ ابتعدنا عن تقييمها من النواحي الفنية، فقد نجحت في خلق رابط عاطفي وذهني مع الجمهور، وقدمت كل ما لها وعليها، من ديكورات وأزياء وتمثيل مخلص لتفاصيل الحياة الدمشقية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ونجحت في تمريراتها السلسة وغير الفجة لمظاهر تدل على الجوانب الثقافية والسياسية والاجتماعية بدقة، فلم تكن وظيفة الصورة في “تاج” فنية، بقدر ما هي عاطفية، ولا يمكن أن يُغفَل في ذلك حقيقة أن الصورة في “تاج” خاضت في مخاطرة لتقليد ما هو أصلي، ونجحت.

أبعادٌ سياسية

للعمل أبعاده السياسية بالطبع، ولم يكن ظهور الرئيس شكري القوتلي هامشياً كما جاءت على ذكره بعض التعليقات حول العمل، بل كان تكريماً صادقاً وحقيقياً لأيقونة سورية خالصة، تكريمٌ واقعي بعيد عن الابتهالات والأسطرة والمبالغة، ولعل العمل كله غير قائم على المبالغة في طرح بطولات السوريين – ما عدا بعض التفاصيل الصغيرة ضمن الحوارات  والتي بدت خارج الإيقاع – وقدم النص الدولة السورية عموماً في حينها حكومةً غير قادرة على إدارة شؤونها بنفسها دون مساعدة. لم يخلق أشياءً لم تحدث، أو حالة وطنية ، لم تكن موجودة.

وفي الحديث عن الأبعاد السياسية، وهذه نقطة تُحسب للرقابة، لم يتم تقييد العمل خوفاً من أية إسقاطات مُحتملة من قبل البعض، وقد جرى بالفعل تذويب العمل وسياقاته في قوالب سياسية ذات صلة بالحاضر، على الرغم من أن المقارنات ما بين الزمن الذي تدور فيه أحداث العمل، والزمن الحالي، كانت بمعظمها عن شكل “دمشق” ما بين الزمنين، مع تفوق كبير للزمن الماضي بكل حوامله.

“بعد الذروة ستنتهي الحفلة، ويحين وقت العودة للمنزل”، أو كما يقول أرسطو “النهاية..”

اُختتم العمل بمشهد احتفاءٍ مُهيب ومؤثر لجلاء الفرنسيين عن البلاد، ولكنه ترك على لسان الراوي انطباعاً حزيناً غير مُطابق للمشهد. وعلى عكس المتوقع لبطل شعبي حقق هدفه – الشخصي والمرتبط بقضيته الوطنية – اختار “تاج الدين الحمال” الابتعاد عن كل ماضيه، وكأنه ألقى نظرة، خلال وقوفه في ساحة المرجة للاحتفال بالنصر، على كل الاتجاهات التي سلكها في الماضي، لينذر ألمه الجمهور أن ليس عليهم سلوك الطريق نفسه، وكأنه بعودته لحلبة الملاكمة أيضاً بعد ذلك، يعود للمكان الذي يريد أن يكون فيه بطلاً بحق، الذي يرى نفسه فيه بطلاً بحق، ولعل ما جاء على لسانه في المشاهد الأخيرة بقوله “ذاكرتي عم توجعني”، توصيفٌ حقيقيٌ لذاكرة شعب حي كامل الآن، شعب لن يعود قادراً إلا على النسيان، وجعاً، بينما تذوب في ذلك كل البطولات والشخصيات التي لا تستحق منا النسيان، ليس فقط شهداء مجزرة البرلمان التي أعاد العمل تصويرها، بل لكل ما شابهها، وما أكثرها.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة