جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاتبنات عبد الرحمن.. ورحلة البحث عن الأب المفقود

بنات عبد الرحمن.. ورحلة البحث عن الأب المفقود

فيصل علوش

«بنات عبد الرحمن» و رحلة البحث عن الأب المفقود

هل يمكن للفيلم السينمائي أن يعكس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية لبلد ما،
من خلال تناوله لقضايا اجتماعية بسيطة في هذا البلد، مثل المشاكل الأسرية والخلافات المتكررة بين الزوجين،
أو بين الإخوة والأخوات؟
نعم، هنالك أفلام تمكنت من فعل ذلك، وأصابت قدراً لا بأس به من النجاح، منها على سبيل المثال لا الحصر؛
الفيلم الأميركي (انفصال/ Detachment/2011)، للمخرج توني كاي.
وهناك الفيلم الإيراني “A SEPARATION”، (انفصال نادر وسيمين/ 2011)،
لـ أصغر فرهادي الذي غالباً ما اهتم بمشاكل الأسرة في أفلامه.
وكذلك الفيلم التونسي «تونس الليل» (2017)، لمؤلفه ومخرجه إلياس بكار.

ومن تلك الأفلام أيضاً، الفيلم الأردني «بنات عبد الرحمن»، (انتاج عام 2021)،
لمخرجه وكاتبه زيد أبو حمدان.
وقد عُرِض أخيراً على منصتي «نتفليكس» و«شاهد»،
وأثار ضجة واسعة وجدلاً كثيراً في الأوساط المحافظة إلى درجة المطالبة بوقف عرضه،
بحجة ترويجه لـ«طروحات غريبة ودخيلة على المجتمع الأردني»،
فضلاً عن أنه «اقتحم البيوت المغلقة والعلاقات الأسرية»،
التي يحرص كثيرون على إحاطتها بالسرية وإضفاء طابع من القدسية عليها.
ناهيكم عمّا تمتّع به الفيلم من جرأة في طرح الخلافات العائلية،
وفضح الأوضاع السائدة المعروفة في مجتمعاتنا التقليدية وما تنطوي عليه من نفاق وازدواجية تجاه قضايا كثيرة يتمّ عادة السكوت عنها،
وخصوصاً تلك التي تندرج في إطار التابوهات المحرّمة،
ومنها المعاناة الكبيرة التي تتعرض لها المرأة من السلطة المجتمعية بطبقاتها المتعددة (الأب والأم والأخ والزوج والعادات والتقاليد.. الخ)،
في الأردن وفي غيره من بلدان العالم العربي. يضاف إلى ذلك تضمّن الفيلم بعض الشتائم والألفاظ التي وصفت بـ«الخادشة للحياء العام».

وقد دافع أبو حمدان عن موضوع فيلمه بقوله إنه «يمثل صورة واقعية لما حدث بين أمّه وشقيقاتها، وينسحب هذا على أسر أردنية كثيرة». كما برّر استخدام الألفاظ النابية بكونها «تتردّد كثيراً على أرض الواقع».

شقيقات ولكن..!

بنات عبد الرحمن
بنات عبد الرحمن

 

يدخل عبد الرحمن غرفة ابنته زينب ويشاهدها مرتدية فستان زفاف زبونة، فيشعر بالصدمة والحزن عليها بعد أن فاتها قطار الزواج. يختفي الأب بعدها، وتلتقي الشقيقات الأربع لأول مرّة منذ سنوات، في بيت العائلة في أحد أحياء عمّان الفقيرة.

يجتمعن اضطراراً، في جوّ مشحون بالتوتر والجفاء، بغرض البحث عن الأب المفقود (خالد الطريفي). ومن خلال تعامل الشقيقات مع بعضهن البعض، نكتشف كيف يمكن أن توجد داخل

العائلة الواحدة شخصيات متنافرة تُباعد بينها تعقيدات الحياة والتفاوت في الأحوال الاقتصادية، والخلاف في الميول والرغبات، وتفشي السلوكيات الخاطئة المستندة إلى سوء الظن وقسوة الأحكام المتخذة ضد الآخر، والافتقاد إلى الاحترام والتفهّم والثقة، فضلاً عن الافتقاد إلى التعاطف والتعاضد والمحبة.

سنتأسّى كثيراً على قوة الهزات التي ينبغي أن يتعرّض لها المرء حتى يشعر بالذنب أو التعاطف تجاه الآخر. وهذا ينسحب سواءً على علاقة الشقيقات مع بعضهنّ البعض، أم على علاقتهنّ مع الأقارب والجيران الذين يسعون إلى الحطّ من شأنهن، ما حدا ببعض النقاد إلى اعتبار أن المخرج أراد لكل واحدة من الأخوات أن تمثل فئة أو شريحة اجتماعية محدّدة. كما أراد أن يجعل من بنات عبد الرحمن وعلاقاتهنّ مع أهل الحارة نموذجاً مصغراً عن المجتمع بأكمله، وما ينطوي عليه من تنوّع واختلاف وصراعات. وخصوصاً في ظلّ النزوع نحو الفردانية الذي تكرّسه العلاقات الرأسمالية والقيم الليبرالية، وما يخلّفه ذلك من تناقض صارخ مع العلاقات القائمة على روابط الدم والقرابة العائلية.

شخصيات حادة ومتطرفة

وسيلاحظ المشاهد أن الحالات التي عرض لها الفيلم اتصفت جميعها تقريباً بالتطرف والقصووية. وهو ما ساهم بحصول عدد من المواقف الكوميدية الطريفة التي خفّفت قليلاً من جو الاختناق والعبء الثقيل الذي كنا نشعر به، كمشاهدين، ونحن نتابع الواقع المأسوي الذي تعيشه الشقيقات.

فزينب (أدّت دورها على نحو مذهل الممثلة فرح بسيسو)، وهي الأكثر هدوءاً وتوازناً بين الشقيقات، بقيت في بيت العائلة، لأنّ حبيبها كان مسيحياً (جوزيف).

ولنا أن نستنتج أن أهلها رفضوا تزويجها منه لهذا السبب، وهي رضخت للأمرالواقع وتخلت عن علاقتها به، ولم يبق منه سوى هدية قدّمها لها ذات يوم (العود)، تذكّرها بشغفها بالعزف عليه، وبأنه كان هناك شخص يحبها ويهتم لأمرها.

والأخت الثانية آمال (صبا مبارك)، منقّبة ومحافظة اجتماعيا، وكان من نصيبها الزواج من رجل متشدّد دينيا (الممثل أحمد سرور)، إلى الحد الذي يجعله يقبل بتزويج ابنته القاصر. وهو من طبقة متواضعة كما يبدو، إذ نجد آمال تعمل في الطبخ حسب الطلب، لتساهم في إعالة أسرتها وأبنائها. وكانت طلبت الطلاق، لكن والدها رفض ذلك وأجابها: «تجيني محمّلة، ولا ترجعي مطلقة». لكنها تضطر في النهاية إلى مواجهة عنيفة مع زوجها، بسبب رفضها تزويج ابنتها القاصر.

الأخت الثالثة سماح (حنان الحلو)، متزوجة من رجل ثري، ليس لديها أطفال. تعيش كما يحلو لها؛ تدخّن وتشرب الخمر وتسوق سيارة فارهة، لكنها عصبية المزاج وتتعامل بنزق، وتتلفظ بكلمات نابية وتُطلق الشتائم ضد الجميع. لا تهتم سوى بمظهرها وملابسها وإجراء عمليات تجميل بهدف إرضاء زوجها المهجوسة بملاحقته اعتقاداً منها أنه يخونها، قبل أن تكتشف أنه يعيش علاقة مثلية مع أحد أصدقائه، ولهذا لا يكترث لها ولكلّ ما تفعله من أجله.

أما الأخت الرابعة ختام، (الممثلة مريم الباشا)، فقد هربت مع حبيبها إلى دبي لتعيش معه في إطار ما يسمّى «المساكنة». وهي تعود الآن، بعد غياب سنوات، لتحصل على موافقة والدها للزواج، بعد أن تسببت فعلتها هذه بمقاطعة الأقارب لوالدها وعائلتها.

بنات عبد الرحمن
بنات عبد الرحمن

وفي المحصلة، فقد بدا أنّ مغادرة الأب للبيت بمثابة فرصة له للتأمل والوقوف مع ذاته، وخاصة أن الأيام التي غابها قضاها في المقبرة قرب قبر زوجته، وكأنه كان يناجي روحها ويجري معها مراجعة بشأن كيفية تصرفه مع البنات، وهو ما لاحظناه في التغير الذي طرأ على موقفه من ابنته ختام.

كما بدا أيضاً أن غياب الأب ورحلة البحث عنه، كان فرصة بالنسبة للشقيقات للمواجهة والمكاشفة؛ سواءً مع النفس، عند كلّ واحدة منهنّ على حدة، أم على مستوى العلاقة بين بعضهنّ البعض من جهة، وبينهنّ ككل وبين الآخرين؛ الأزواج والأقارب والجيران، من جهة ثانية. وقد قادت هذه المكاشفة إلى امتلاك الشجاعة على نحو غير مسبوق في مواجهة الجيران (زينب)، أو جرأة أكبر في مواجهة الزوج (آمال)، أو سمحت بالوقوف على حقيقة الزوج (سماح)، مثلما أدّت إلى مصالحة الشقيقات مع بعضهنّ البعض.

وعلى رغم شخصية زينب الهادئة، التي تحاول طوال الأحداث السيطرة على شقيقاتها بسبب خوفها من إثارة الفضائح، إلا أنها تنفجر مرتين في الفيلم؛ الأولى في وجوه شقيقاتها اللواتي سمحن لأنفسهن بالتفتيش في أغراضها واتهامها بالكذب بشأن حقيقة غياب الأب. ومرة ثانية أمام أهل الحارة، كاشفة عن الكثير من أسرارهم وفضائحهم. ونكاية بهم وبفضولهم، تكشف زينب عن أنّ أهل الحارة لا يعرفون شيئاً،لماذا؟ لأنها في علاقتها السابقة، لم تكتفِ بإمساك يد حبيبها فقط، كما شاهدوها آنئذٍ، بل لقد قبلته مرتين!. لقد أجمع أغلب النقاد الأردنيين والعرب على أنّ فيلم «بنات عبد الرحمن» يشكل علامة فارقة وجريئة ضمن إطار المعالجة الدرامية لموضوع المرأة في السينما العربية. وعلى أنه يتفوق بذلك على الكثير من الأفلام الروائية الأردنية التي سبقته.

وذهب البعض إلى اعتبار أنه يمثل «خطوة متقدمة باتجاه صناعة سينما أردنية تتناول قضايا اجتماعية عميقة، وخاصة تلك المسكوت عنها، أو التي يتنكر المجتمع لوجودها، وأقلّه، يتجنّب تسليط الضوء عليها»!.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة