فراس القاضي
الدراما كانت جسر الموسيقا إلى الجمهور العربي
عشنا سنيناً طويلة نحفظ ونردد ونستمع إلى تترات (أغنية الشارة) وموسيقا المسلسلات المصرية التي ما تزال حيّة بيننا حتى اللحظة، مثل (ليالي الحلمية – المال والبنون – بوابة الحلواني وموسيقا رأفت الهجان الشهيرة) وغيرها،
ولا أذكر أننا كنا نردد تتر مسلسل سوري إلا نادراً وفي وقت عرضه فقط غالباً.
وقلة قليلة جداً من موسيقا الأعمال السورية ما تزال حية إلى اليوم، مثل موسيقا مسلسل (صح النوم) للفنان الراحل عبد الفتاح سكر،
وبعض التوليفات من الأغنيات التراثية التي قام بها الفنان الراحل سهيل عرفة لبعض مسلسلات البيئة الشامية مثل (أيام شامية – أبو كامل).
الجودة العالية جداً التي كانت تتمتع بها موسيقا الأعمال المصرية،
هي التي أجبرتنا على حفظها حتى اللحظة، فقد كانت من إنتاج أكبر الأسماء من كتّاب وملحنين؛
مثل سيد حجاب وياسر عبد الرحمن وميشيل المصري،
طبعاً غير أسماء الملحنين الكبار الذين كانت لهم مشاركات في تلحين بعض تترات المسلسلات مثل بليغ حمدي ومحمد الموجي وعمار الشريعي.
ثم فجأة، وكأن أحداً ما أعطى أمراً ما،
أو وضع كلمة السر الصحيحة في المكان الصحيح،
انطلقت أعمال الموسيقا التصويرية السورية، وملأت سوريا والوطن العربي،
واحتلت مكانها الكبير في وجداننا وقلوبنا، فحفظنا فصحتها وعامّيتها، وأسماء مغنيها التي كانت غريبة على غالبيتنا،
وتعرفنا على طاهر مامللي ورضوان نصري وإياد الريماوي ورعد خلف وسعد الحسيني وغيرهم ممن لا يتسع المقام لذكرهم، وتفاجأنا بوجودهم بين ظهرانينا، وبأنهم سوريون.
فما الذي حدث؟ وما هي كلمة السر؟
هذا السؤال وغيره من الأسئلة، وجهتها «فن وناس» للموسيقار طاهر مامللي الذي كان من أوائل الذين شاركوا بهذه النهضة الموسيقية إن صح التعبير،
فقال إنهما كلمتا سر وليست واحدة،
الأولى هي الدراما السورية بمرحلة من المراحل وانتشارها العربي،
والثانية الجهد والتعب والتنافس بين الموسيقيين لتقديم ملفات موسيقية بعيداً عن التفكير التجاري،
أي أن الموسيقيين السوريين فضلوا تقديم ملف موسيقي محترم محمول على الدراما للانتشار،
بدلاً من تقديم موسيقا أو أغنية محمولة على الشرط التجاري،
وهو شخصياً – مامللي – ساعدته الدراما والمسلسلات على الانتشار في الوطن العربي،
وعلى الحصول على جوائز في بعض هذه الدول لأن الدراما كانت جسراً للوصول إلى هذا الجمهور .
هذه الموسيقا وهذا الإنتاج لم يكن وليد تلك اللحظة بكل تأكيد،
ولا بد أنه كان هناك أصول ومحاولات سابقة أدت – أو على الأقل ساعدت – في الوصول إلى هذا المستوى،
وعن هذا يقول مامللي إن الموسيقا التصويرية التي قدمها عبد الفتاح سكر وسهيل عرفة وغيرهما كانت مخزوناً لهم كملحنين،
لكن بعد هذه المرحلة ما عاد هناك موسيقى وغناء سوري،
فكان البديل هو الموسيقا التصويرية التي لم تكن فقط نافذة وجسراً للموسيقيين،
بل وفي مطارح كثيرة كانت نافذة للمغنين السوريين للوصول إلى الناس،
في الوقت الذي كان المكان الثاني الذي يفترض أن يصلوا من خلاله إليهم (الحياة الفنية السورية) شبه مغلق أمام الفرص.
يتابع مامللي: «لا يقل أهمية عما سبق هو عدم الاستسهال،
فقد كان هناك اجتهاد من كل العاملين بالحقل الموسيقي، وهذا الاجتهاد كان يتطلب،
من بين ما يتطلب، قراءة النص والبحث عن المرحلة الزمنية للعمل،
لتكون الآلات التي ستوضع في خدمة الموسيقا متناسبة مع المرحلة التاريخية التي يمثلها العمل مثلاً»،
وضرب مثالاً شارة وموسيقا مسلسل «ضيعة ضايعة» (كتابة د. ممدوح حمادة – إخراج الليث حجو) التي اختار لها مؤدياً قد لا يتعامل معه في أغنيات أخرى، لكن في هذه الشارة تحديداً،
لا يمكن لغيره أن يغنيها بتألق وتميز.
ويضيف بأن هذا البحث عما هو مناسب كان لتحقيق الشرط الدرامي أكثر من الشرط التجاري،
وكان يتطلب جهداً وتعباً من ضمنه كما أسلفنا،
قراءة النص واختيار من سيغني الشارة، ويرى مامللي أن أي عمل ناجح مقرون بالجهد والتعب أكثر من الموهبة،
وخصوصاً في الوقت الحالي، حيث أصبح هناك تقنيات حديثة وبالإمكان الاستسهال كثيراً،
ورغم أن المقولة الموسيقية قد تصل إلى الناس عبر الاستسهال،
لكنها لن تحقق شرط الديمومة بالذاكرة إن لم تحمل مقومات العمل الجاد،
أما اليوم فالشرط التجاري لا يبحث عن الجهد والتعب والبحث، إنما عن الاستسهال،
بل ويتجه أحياناً لتتفيه قيمة الفن كرسالة في الملف الدرامي.
تجريب وأسلوب خاص
ويؤكد مامللي أنه علينا ألا ننسى أن مدرسة الموسيقا التصويرية في سوريا مدرسة تجريبية،
فالمعهد العالي الذي هو أعلى جهة أكاديمية موسيقية لا يوجد فيه تخصص إن كان للتأليف الموسيقي أو للموسيقا التصويرية، وهذا ينسحب على الإخراج أيضاً، فحتى في فترة تألق الدراما لم يكن لدينا تخصص إخراج،
والغالبية درس خارج البلاد، لكن الذي يحدد ويميز ويفرز العمل، هو الأسلوبية التي تختلف بين الموسيقيين،
والموسيقي الذي ليس لديه هوية تتعرف إليها في كل أعماله دون قراءة اسمه على العمل ليس فناناً،
وهذه الأسلوبية اشتُغل عليها بشكل فردي أكثر منه تخصصياً.
ماذا عن الأجر؟
يقول بعض المهتمين بالشأن الفني والموسيقي تحديداً: إن أردت عملاً جيداً، عليك رفع الأجر المادي، لأن هذا الفنان أو ذاك لا دخل له سوى من هذه المهنة.
فإلى أي حد يصح هذا الكلام؟
يبدأ مامللي الجواب على هذا السؤال بالتأكيد على أن النقود لا تصنع فناً، لكن هذا لا يعني بأن الفنان نبيٌ يعيش لرسالته الفنية فقط، وربما من كان هكذا هم أشخاص يعدون على أصابع يد واحدة خلال التاريخ كله،
فالأجر الجيد محفز لكل الأعمال، لكن ليس بالضرورة أن يؤدي لإنتاج عمل فني جيد.
وضرب مثالاً الموسيقا التصويرية لفيلم «كفر قاسم» (إنتاج 1975 – حوار عصام محفوظ – سيناريو وإخراج برهان علوية)،
فهي موسيقا مشغولة على آلة الناي فقط،
أي أنها فقيرة جداً من الناحية الإنتاجية، لكنها من أهم الأعمال موسيقياً،
وبالتالي ممكن أن يتغاضى الموسيقي عن الإنتاج الضخم.
ثم يستدرك مامللي ويقول: «ما سبق لا ينفي أبداً أنه بوجود إنتاج ضخم تكون الأريحية أكبر، لأن شروط الإبداع تكون ميسرة أكثر من خلال الآلات والتنفيذ وهذا مهم جداً،
واليوم ما عاد بالإمكان غش المتلقي، فإن تم التنفيذ دون آلات (لايف) وأوركسترا،
يستطيع المتلقي العادي اكتشاف ذلك،
أي أن الإنتاج المريح ضرورة لكنه ليس الأساس، حتى موتزارت – كما تقول سيرته – كان يستدين النقود أحياناً،
ويعد الدائن بالتسديد بعد تقاضي أجر الكونشيرتو الجديد».
صاحب القرار الحقيقي
مامللي الذي يحفظ الكثير من السوريين أعماله عن ظهر قلب لدرجة أنها تحولت إلى حفلات خاصة يطلبها الجمهور،
يقول إنه صار يستخسر التعب والجهد على أعمال يعلم مسبقاً أنها لن تحقق الانتشار على الأقل،
ويضيف بنبرة لا تخلو من أسى، بأن المنتج يريد الترويج فقط دون أي اعتبار للقيمة الفنية،
لأن صاحب القرار اليوم ليس الفنان والمبدع، ولا حتى صاحب المشروع، بل صاحب رأس المال،
أي المنتج، وأصحاب رؤوس الأموال عبر العصور لا تعنيهم القيمة الفنية بقدر ما يعنيهم الربح المادي،
لكن ما سبق سيؤدي إلى تراجع مستوى الفن والموسيقا وظهور فقاعات،
وحالياً يعتمد المنتج على أي أحد ليغني الشارة، دون مراعاة شروط غنائها أو إن كانت مناسبة لصوته أم لا،
إذ يكفي أن يكون نجماً، وأن تكون الأغنية (ضاربة) حتى لو لم يكن فيها مقومات الشارة،
وربما يعطي الملايين لهذا المغني،
في الوقت الذي لا يدفع فيه ليرات لخريج معهد عالي صوته مناسب لكنه غير معروف،
وهذا ما يؤدي إليه تغليب الشرط التجاري على الشرط الفني،
والأمر لا يقف عند ذلك، بل يؤسس لترد عام كما يحدث حالياً بحجة الحرب التي وصفها بالشماعة، مستشهداً بزياد الرحباني الذي قدم أهم الملفات الموسيقية في أصعب أوقات الحرب الأهلية اللبنانية.
لماذا الموسيقا التصويرية؟
فاجأنا الموسيقار مامللي بسؤال استدعت إجابته شرحاً حاول خلاله عدم الغوص بالتفاصيل الأكاديمية كثيراً: «لماذا الموسيقا التصويرية أصلاً؟».
يرى مامللي أن الموسيقا التصويرية حوار ثانٍ يستطيع المخرج من خلالها تقديم رسالة قد لا يوضحها النص،
أو لا يستجيب لها الممثل،
حوار يطمح المخرج من خلاله – بالتشارك مع الموسيقي طبعاً – إلى إيصال رسالة قد تكون في بعض الأحيان مغايرة للصورة والحوار،
وضرب مثالاً عن شارة (ضيعة ضايعة) مرة أخرى، حيث تم الاتفاق بينه وبين المخرج الليث حجو،
على أنه وعلى الرغم من أن العمل كوميدي،
تم وضع موسيقا حزينة في بعض الأماكن، بل إن أغنية الشارة حزينة،
لكن الناس تقبلتها وتقبلت الرسالة، وهذا دليل نجاح الفكرة.
إضافة إلى أن الموسيقا التصويرية أصبحت في كثير من الأوقات مستقلة حتى عن الدراما التي صُنعت من أجلها،
وأصبح الناس يستمعون إليها محبة بها أكثر من العمل الدرامي نفسه،
فموسيقا مسلسل (رأفت الهجان) مثلاً، يستمع الناس إليها حتى اليوم دون حضور المسلسل.
غياب التبني الفني
يحدد مامللي، باختصار وبتكثيف شديد وبشكل مباشر،
نواقص الموسيقا بشكل عام، ومن ضمنها الموسيقا التصويرية،
ولاسيما موضوع التبني،
إذ ليس لدى الموسيقيين في سوريا مؤسسة تتبنى مشاريعهم الموسيقية،
الأمر الذي دفعه بشكل شخصي للجوء إلى الدراما لتحقيق هذا الأمر.
ويؤكد مامللي أن عدم وجود هذه المؤسسة يزيد الأمر صعوبة على الجميع،
لكنه أصعب على الذين في بدايات تجاربهم.
وفي ظل تراجع الدراما السورية وغياب المنتج الفني وتقدم المنتج الجاهل،
برأي مامللي، أصبح من الصعوبة بمكان تقديم ملف موسيقي بمستوى الملفات التي تم تقديمها سابقاً،
ويقول:
«في مسلسل «الثريا» (إنتاج عام 1997 – تأليف نهاد سيريس – إخراج هيثم حقي) قدمت لحناً شرقياً مع غناء أوبرالي على خلفية تتنوع بين الكلاسيكية والشرقية البحتة مع توزيع هارموني،
وكان هذا تحدياً كبيراً لمسلسل يتحدث عن ريف حلب،
أما اليوم، أنا غير قادر على تكرار التجربة مع منتج لا يعرف ماذا يعني غناء أوبرالي،
وفي ظل غياب المنتج الفني أصبح هناك صعوبة في التجريب».
ويختم الموسيقار مامللي حديثه لـ «فن وناس» بالتأكيد على الحاجة الشديدة والكبيرة لرعاية الموسيقا بشكل عام والتصويرية بشكل خاص،
وهذه الرعاية لا تكون من الموسيقي، ولا من المستمعين،
بل من مؤسسة قطاع عام لا تسعى إلى الربح، أو قطاع خاص يريد الربح لكن عبر تقديم جودة عالية.