وائل سعيد
“العروض من المسرح والصورة من السينما”
على غرار العنوان الشهير لكتاب الأمريكي “جون جراي.. الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”،
انطلقت فعاليات النسخة السادسة عشر من المهرجان القومي للمسرح المصري،
وذلك على مدار أكثر من أسبوعين، في الفترة من 29 يوليو/تموز وحتى 14 أغسطس/آب الجاري،
برئاسة الممثل محمد رياض في فترته الأولى بعد مشاركة دامت لثلاث دورات متتالية عضوا في اللجنة العليا للمهرجان.
ما الذي يمكن أن يجمع بين رياض وبين مؤلف الكتاب الأمريكي؟
أظن أن الاثنين قاما بجمع مختلفين وفق سياق واحد – وإن اختلفت الطريقتان- حيث استطاع جراي الدمج بين قطبي الحياة البشرية “آدم وحواء” في كتابه،
وكان لذلك وجاهته، فيما حاول رياض الخروج بدورة مسرحية ولكن بنكهة مختلفة؛
ربما انحازت بشكل كبير للمظاهر السينمائية على حساب الفعل المسرحي، ويتضح ذلك من اختيار اسم حامل الدورة الفنان عادل إمام.
حمل البوستر الرسمي مشهدا للزعيم من مسلسل “عفاريت عدلي علام 2017” بالإضافة إلى بوستر آخر يحمل صورة من فيلم “خمسة باب 1983″،
وهو ما نتج عنه زيادة الانتقاد حيث لم يجد الكثيرون رصيدا مسرحيا في تاريخ إمام يتناسب مع مهرجان للمسرح، وبرغم أن عادل إمام قدم عددا كبيرا من المسرحيات،
فهي ليست العلامة المميزة في تاريخه،
ناهيك عن أن غالبية مسرحياته وخصوصا الأخيرة كانت كلها إنتاج القطاع الخاص.
كان من السهل اختيار صورة مسرحية للفنان؛ حبذا لو كانت لشخصية “دسوقي أفندي” من مسرحية “أنا وهو وهي 1964” أول أدوار الزعيم. ورغم صغر الدور يبقى واحدا من أميز ما قدم خلال مسيرته الفنية.
ونلاحظ أن موقفا شبيها حدث من قبل في الدورة 12 التي حملت اسم الفنان كرم مطاوع وجاء على البوستر صورة لمطاوع في مشهد من فيلمه الشهير “سيد درويش 1966” وهو ما ابتعد كثيرا عن مسيرته المسرحية لصالح تجربته في السينما.
لم يحضر الزعيم بالطبع – كما هو متوقع- لتسلم تكريمه وشاركه عدم الحضور الفنان خالد الصاوي وهو من ضمن المكرمين،
وربما نلمح في كلمة الفنان صلاح عبد الله شبه دفاع عن الاتهامات السينمائية الموجهة للمهرجان،
حين أوضح بأن علاقته المسرحية لم تخرج عن إطار المسرح الخاص وليس مسرح الدولة.
وللمرة الثانية يعرض الفيديو الخاص بمسيرة عبد الله مجموعة متنوعة لمشاهد مختارة من أعماله السابقة في السينما والدراما بدون مشهد واحد من عرض مسرحي.
يقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير– ترجمة هاشم صالح”: “عندما درسنا مخيلة الجماهير رأينا أنها تتأثر بالصور بشكل خاص. فهي تبهرها فعلا. وإذا لم نكن نمتلك الصور فإنه من الممكن أن نثيرها في مخيلة الجماهير عن طريق الاستخدام الذكي والصائب للكلمات والعبارات المناسبة”.
وهو المنهج الغالب على إخراج دورة هذا العام؛
بداية من إطلاق اسم عادل إمام على الدورة، مرورا بصوره التي انتشرت في جميع أخبار وإصدارات وكل ما يخص المهرجان،
وفي النهاية كان لنطق اسم “الزعيم” وقع السحر على الأذن خصوصا حين تأتي على لسان رئيس المهرجان بصوته الجهوري “الزعيييييم”.
“سينما نعم.. سينما لا”
أقيم المؤتمر الصحفي للمهرجان بسينما الهناجر قبل بدء الفعاليات بأسبوع، للإعلان عن تفاصيل الدورة الجديدة والرد على كافة الاستفسارات الصحفية،
كان من المعتاد أن تستضيف إحدى قاعات المجلس الأعلى للثقافة وقائع المؤتمر؛
إلا أن رئيس المهرجان عمل منذ البداية على تصدير صورة مفادها “أن دورته الجديدة في حاجة إلى أماكن وأساليب ومظاهر مختلفة عن كل الدورات السابقة”،
خصوصا وأن محبي الفنان كثيرون ـ كما أشيع على الميديا ـ وهو ما سيضاعف أعداد الحضور،
حتى أن إحدى المذيعات تبرعت في لقاء تليفزيوني مع رئيس المهرجان مبلغه إياه أنها لم تكن تعلم بالمهرجان من الأساس قبل رئاسته.
في إحدى المداخلات من الحضور أشاد مخرج سينمائي بالإدارة الجديدة موضحا أن شهادته مجروحة كونه ينتمى إلى نفس الدفعة من الجيل،
ثم أفاض المخرج في حديثه مؤكدا أن ما يتم تداوله عن صراع دائر بين المهرجان القومي للمسرح ومهرجان القاهرة السينمائي عار تماما من الصحة،
وأن كلا المهرجانين يعملان لصالح واحد ولخدمة أهداف وطنية وقومية..، “ولا يوجد أي تنافس بين المهرجانين” وقد كان على حق في جملته الأخيرة؛
حيث لم نسمع من قبل عن أي تنافس بينهما،
فلكل وجهته المختلفة تماما عن وجهة نظيره ولن نجد ما يجمع بينهما سوى الجهة المنظمة لكليهما؛
وزارة الثقافة. يُعيدنا كل حديث يروج أو يشير إلى مقاطعة أو نزاع بين المسرح وفن السينما،
إلى فترات زمنية عتيقة خلت وقت ظهور الفن السينمائي وصراعه الأول مع المسرح، وهو ما حدث للسينما لاحقا بظهور التليفزيون.
وبمرور الوقت تبين أنه لا يوجد أي تعارض في التعاون بين الفنون؛
بل من الممكن أن يكون مفيدا في بعض الأحيان حين نتمكن من خلق بيئة ثقافية تستطيع فيها الايديولوجيات المختلفة أن تتناسج وتتمازج؛
إذ إن الثقافات تمتلك المرونة والقدرة على إعادة تشكيل نفسها بطرق مستجدة وبشكل مستمر،
طالما توفرت لها الظروف والبيئات الحاضنة.
ولا ننسى حقيقة شعور عدد لا يستهان به من المسرحيين بشيء من المظلومية فيما يخص احتكار السينما لتسليط الأضواء،
متذرعين طوال الوقت بأسبقية “أبو الفنون” على الفن الوافد الجديد الذي لا يتعدى عمره قرن وربع من الزمان.
ربما هي مقارنة في غير محلها بين نوعين مختلفين من الفنون يملك كل منهما مقوماته الخاصة،
لكنها وجدت طريقا سهلا لمنابر الإعلام، فقد تحدث بعض الإعلاميين في البرامج المختلفة عن عودة قوية للمسرح المصري تشهدها الفترة الحالية بعد تراجع دام طويلا.
من المثير للانتباه أيضا هذا العام هو استمرار مشكلة الشكوى من قلة عدد الدعوات،
وكأنها أصبحت تقليدا سنويا ضمن فعاليات كل دورة؛ سواء في القومي أو في غيره، رغم أن دعوات حضور حفلتي الافتتاح والختام تقتصر على أرباب المهنة أنفسهم،
من صناع وصحفيين وإعلاميين وما إلى ذلك، ولا تتاح مثل هذه الحفلات عادة للجمهور على مستوى العالم.
ظهر ذلك جلياً في حفل الافتتاح وتحايلت الإدارة لحل المشكلة باختيار “مسرح النافورة” لحفل الختام،
وهو مسرح مكشوف يقع بالقرب من المدخل الرئيسي لدار الاوبرا، تم استحداثه وقت ظهور كوفيد 19 ضمن إجراءات التباعد.
قبل الإعلان عن مكان إقامة حفل الافتتاح، وجهت إدارة المهرجان، عبر الصفحة الرسمية،
دعوة إلى جميع الفرق المشاركة للحضور، ما يعني أن عددا ضخما من الأفراد سيجتمع ولن تتسع قاعة المسرح الكبير لاستيعابها،
وهو ما أدى إلى اندهاش البعض واستنكار البعض الآخر خصوصا وقد سبق حفل الختام يوم خال بدون فعاليات أو عروض استعدادا لإعلان نتائج لجان التحكيم،
التي تمت في حالة من السرية والتكتم مبالغ فيها حتى أن فريقا سخر من ذلك وكانت نتائج الثانوية العامة في مصر قد ظهرت في توقيت ليس ببعيد، ما دعا لاستحضار المقارنة.
فيما أكدت إدارة المهرجان على أهمية هذه السرية “من أجل تطبيق العدالة للجميع” على أن يتم إعلان النتائج على المسرح مباشرة،
وهو ما حدث بالفعل، لكن أسماء الفائزين، أفراداً أو مسرحيات، كنا نسمعها من بعض الحضور قبل إعلانها في الميكرفون.
البحث عن مُتفرج خارق
قدم الممثل محمد رياض عددا كبيرا من الأعمال توزعت بين الدراما والمسرح والسينما،
وهو واحد من أشهر نجوم دراما التسعينيات، وكانت الموضة في ذلك الوقت الاهتمام الأكبر بالشكل عن المضمون، ويبدو أن رياض لم يخرج من هذه الموضة بعد وهو ما تدل عليه بعض المظاهر والتصريحات على مدار الدورة، بداية من استحداث نظام جديد للحجز الالكتروني انطلق قبل بدء المهرجان بأيام قليلة،
إلا أنه لم يقدم حلولا أو خدمات تذكر وتكررت نفس الأزمات السنوية في حضور العروض.
أثناء ذلك، كان رئيس المهرجان يدلى للإعلام بتصريحات غريبة بعض الشيء
مثل: “حاولت اختصار اسم المهرجان ليكون مهرجان المسرح المصري فقط”،
والسبب يكمن في ملاحظته وجود لبس يحدث لدى الناس في التفريق بين المهرجان وبين المسرح القومي بالعتبة!، ويؤكد في لقاء آخر أنه لا يوجد جمهور يدفع ثمنا لدخول المسرح سوى في مصر!،
وفي مداخلة تليفونية في برنامج “آخر النهار” يتفق مع مذيع الحلقة على أن المسرح في مصر “لا منافس له في الوطن العربي” بينما تامر أمين يهز رأسه تأييدا.. “صح”.
من ضمن المداخلات العديدة لرئيس المهرجان لفت الانتباه لحديثه في برنامج “الستات”،
حيث حكى عن مواطن مصري مُسن وصفه بـ “اللطيف” قابله بالصدفة في بداية المهرجان،
وحين عرض المواطن مشكلته على رياض في الصعوبة التي يواجهها في استعمال الحجز الالكتروني الذي يجهله؛
ما كان من الأخير إلا أن أعطاه “آي دي” ليتمكن من دخول كافة العروض.
ذكر رياض واقعة الرجل ردا على سؤال من المذيعة عن إحصائيات لأعداد المشاهدين،
ولكن الطريف هو تكملة رياض للحكاية التي ستأخذ منحى خياليا بعض الشيء، حين يُخبرنا أن طبيعة عمله ألزمته مصاحبة لجان تحكيم المسابقات لمشاهدة العروض وكان في كل مرة وعلى كافة المسارح يجد الرجل حاضرا يُشاهد العرض بسعادة ولم يفوت أي مسرحية.
وأخيرا.. المسرح
في النهاية، يبقي العمل الفني هو أساس كل مهرجان وهو المحور الرئيسي الذي تدور حوله أي فعالية كتلك،
حتى وإن تزاحمت من حوله عناصر أخرى مثل البهرجة والبروباجندا سواء كانت مصطنعة أو موجهة.
تنافس في دورة هذا العام 37 عملا مسرحيا من إنتاج 13 جهة تنوعت ما بين البيت الفني المسرح.
هيئة قصور الثقافة. الفرق المستقلة والحرة.
والمسرح الجامعي، قدمت المسرحيات مواضيع متنوعة ومختلفة اعتمدت في غالبيتها على كتابات مصرية أو عربية، وهو ما افتقدناه كثيرا في دورات سابقة وفي مهرجانات مختلفة ـ
وكان محل بعض التوصيات أحيانا ـ حيث هيمنة النص المترجم على غالبية العروض.
كان للأعمال الكلاسيكية نصيب أيضا من بروجرام هذا العام،
فهناك عدد من العروض قدمت معالجات جديدة أو إعادة لأعمال سابقة مثل “سيدتي أنا” بطولة داليا البحيري ونضال شافعي دراماتورج وإخراج محسن رزق،
عن رائعة الكاتب الايرلندي برنارد شو والتي قدمها الفنان الكبير فؤاد المهندس في واحدة من أمتع مسرحياته بعنوان “سيدتي الجميلة 1969”.
حصلت المسرحية على خمس جوائز من المهرجان في مقدمتها المركز الأول كأفضل عرض مسرحي،
وأفضل أشعار، وأفضل تصميم أزياء وديكور مناصفة وأخيرا أحسن إخراج.
ونلاحظ هنا عدم حصول عنصر التمثيل على أي جوائز برغم احتواء العمل على أسماء لمشاهير.
في سياق مشابه، قدمت مسرحية “طيب وأمير” إعادة أيضا لتراث الثنائي الخالد “نجيب الريحاني وبديع خيري” وبرغم جودة العمل إلا أنه لم يوفق في الحصول على جوائز.
معالجة تراثية أخرى نتابعها في مسرحية “ياسين وبهية” إخراج يوسف مراد منير وحصل على جائزة “أفضل مخرج صاعد”،
كما حصدت المسرحية على المركز الثاني كأفضل عرض بالإضافة إلى ثلاث جوائز في التمثيل:
“أفضل ممثل دور أول رجال” و”أفضل دور ثان” مناصفة مع مسرحية “الزائر” وأفضل دور أول نساء مناصفة مع مسرحية “سيب نفسك”.
ويجدر هنا التأكيد على أن قرارات لجان التحكيم في كل المسابقات لا تعد وثيقة إدانه أو تصريح للعمل؛
فكم من أعمال جيدة تجاهلتها لجان كثيرة،
إلا أن اللافت في نتائج هذا العام هو زيادة نسبة الشباب، سواء في المشاركة او الجوائز، عن الأعوام السابقة،
وهي نسبة تدل على وجود جيل مغاير من المسرحيين الشباب يمتلك من الرؤية والأدوات ما يمكنه من إحداث حراك حقيقي على خشبة المسرح،
من هنا لم يكن من الغريب أن تذهب جوائز لجنة التحكيم الخاصة لأربع مسرحيات من إنتاج الفرق الحرة والمسرح الجامعي. قبل أن ينتهي حفل الختام،
أعلنت إدارة المهرجان أن الدورة القادمة 2024 ستحمل اسم سيدة المسرح سميحة أيوب.
وهذه المرة لن يكون هناك أي شائبة فيما يمكننا دعوته بـ “مسرحة الدورة”،
رغم ذلك يعيدنا اختيار اسم الدورة القادمة إلى نظرية غوستاف لوبون حول التأثير على مخيلة الجماهير “عن طريق الاستخدام الذكي والصائب للكلمات والعبارات المناسبة”.