تتقاطع تفاصيل البيئة التي اقتحمها فيلم “المرهقون” اليمني، في كثير من مفاصلها مع البيئة السورية في فترة الحرب وما بعد الحرب , انتشار للحواجز العسكرية , انقطاع الكهرباء , ضيق الحال , الأبنية بأنصاف جدران وثقوب خلفتها القذائف , البحث عن عمل يمنح أجوره بالدولار, غلاء أجور البيوت , ولكن لم يذهب مخرج الفيلم والمُشارك في كتابته ( عمر جمال ) في منح الأولوية لأي من تلك المعطيات لأن يكون مسيطراً على الفيلم أو هدفاً رئيسياً له , بل رصد تأثيرها على أبطاله “المرهقون, ووضعها في موضع المبرر لكل تصرفاتهم وأزماتهم الشخصية , فالفيلم يتحدث عن رجال ونساء من لحم ودم وهم بالنسبة للفيلم أخذوا الأولوية , وهذا منحه مزية الابتعاد عن النقاش السياسي والخوض في وحل الاستقطاب الحاد المسيطر على المشهد العام في اليمن المعاصر الذي مزقته الحرب وتحولت شخصياتنا لجروح متحركة اعيتها الورطة المتمثلة في انتظار مولود جديد.
في العرف الاجتماعي والديني , يعتبر الطفل الجديد نعمة , فكيف تحوّل بعرف شخصيات الفيلم لنقمة ؟ لابد أن التحول الحادث في هذه البيئة كان شديدا ليبرز هذا التمايز بين قوانين الأعراف السائدة والتي تنتمي إليها شخصيات الفيلم بشدة وما بين عرفهم الخاص كحصيلة لعقد من الحرب الطاحنة.. الفيلم استهلك دقائقه التسعين للإجابة .
أحمد موظف في التلفزيون اليمني , توقف راتبه منذ شهرين أسوة بباقي وزارات الدولة المنهارة , وآثار الحرب ترخي بظلالها على المدينة , زوجته حبلى , حدث يتزامن مع الوقت الذي يقرر فيه الزوجان التخلي مجبرين عن منزلهما لارتفاع أجره والبحث عن منزل جديد , فيقررا الإجهاض .
بدأ الفيلم وشخصياته اتخذت القرار بالفعل , وبدأت رحلة البحث عن طريقة لتحقيق ذلك , ليبدو مع تراكم المحطات وكأن هذا الإجهاض ما هو إلا انعكاس للأفق المسدود الذي حُشر فيه أحمد وزوجته, انعكاس لحال البلد الذي يقتل أبناءه قبل الولادة , وانعكاس للهم الجماعي لأشخاص لا يثقون بالمستقبل , عائلة أحمد مكونة من ثلاثة أطفال, وللزوجين تجربة إجهاض سابقة باءت بالفشل , على إثرها تحول طفلهما الحي لعبء جديد, وهي التجربة التي سيكررون خوضها خلال الفيلم في اشارة منه للتدهور المستمر في الأوضاع الاقتصادية وكأن هذا التغير هو الثابت الوحيد في حياتهم والذي لم يجدوا له مخرجا وتكرست حياتهم للتعايش معه.
تقنياً.. باستخدام المخرج عمر جمال العدسات الواسعة لم يقترب من شخصياته بل جعلهم جزءاً من المكان وكأنهم حصيلته
تناول الفيلم بيئة تكسوها ملامح المجتمع المحافظ , وطرح من خلالها أزمات عقيمة الحل ابتداءً من انتشار العسكرة وانتهاءً بتحلل المعتقدات السائدة , مع القناعة التامة بضرورة التعايش مع الواقع الجديد كحل للنجاة , فشخصيات الفيلم عاجزة عن إحداث أي تغيير , وفي حال اصبح هذا التغيير عاجلا وضروريا، تصبح معرضة للاشتباك مع الكثير من الأساسيات والبديهيات المجتمعية الجامدة وهنا كانت أزمة الفيلم الكبرى , فالفيلم لم يروج لفكرة الإجهاض بقدر إدانته للظرف الذي خلق لدى شخصياته القبول والرضى بهذه الفكرة , ضعف الحال الذي ألم بشخصياته عرّاهم تماما أمام أزماتهم وكسرت الاختلافات بين الذكر والانثى سوى في الإجهاض , وحتى حينما اُتخذ هذا القرار لم يسمح الفيلم بإدانة شخصياته أخلاقيا , لتعاطفه وانحيازه عاطفيا لهم بالمقام الأول , ولتصوير شكل التغيير الذي أصاب هذه البيئة المحافظة ثانياً, وإعادة تركيب للآية القرآنية التي تقول ان المال والبنون زينة الحياة الدنيا , وذلك نتيجة لارتباط هذان العاملان بشدة بعضهما ببعض , ليبدو وكأننا أمام واقع متروك ومُهمل, تخلت عنه كل اشكال السلطات والقوة الراعية والمؤثرة سواءً على الصعيد السياسي او الديني.
بيئة الفيلم، اختلطت فيها ملامح المدينة والريف, بقايا الحرب مع بقايا الحياة , واقع الحال مع الآمال المبتورة, بيئة يمنية غير مزخرفة بالتراث الشعبي والتاريخي, بيئة مطلة على الحضارة لكن لم تمسسها, معجونة بالتعب والارهاق والمقابر والعتمة , اليمن السعيد في هذا الفيلم غزير بالحكايات اليومية, والمصاعب والقصص
ولكن قيمة الفيلم لا تكمن فقط في هذه الجزئية , فكاميرا عمر جمال اقتحمت بيئة جديدة على السينما, بيئة تختلط فيها ملامح المدينة والريف , بقايا الحرب مع بقايا الحياة , واقع الحال مع الآمال المبتورة , بيئة يمنية غير مزركشة بالعادات والتقاليد , غير مزخرفة بالتراث الشعبي والتاريخي , بيئة مطلة على الحضارة لكن لم تمسسها, معجونة بالتعب والارهاق والمقابر والعتمة , اليمن السعيد في هذا الفيلم ليس مادة وثائقية عن الحرب , ولا نشرة إخبارية تُحصي الضحايا , ولا ريبورتاج يتغنى بماضي هذا البلد , بل كان يمناً غزيراً بالحكايات اليومية , والمصاعب والقصص التي كسرت المفهوم السائد والانطباع المسبق عما يحتويه هذا البلد , في انتقال الكاميرا بين سوق الخضار وعيادة الإجهاض , بين المنزل القديم ذو الاجار الغالي والجديد المتهالك , بين نوافذ البنك التي تكدس خلفها المال عديم القيمة , ونافذة ( الميكرو ) الأمامية التي تكدست خلفها الوجوه الكئيبة , تمكن هذا الفيلم من التقاط الحياة بجزئياتها ونبضها في مدينة توشك أن تموت لتراكم الأزمات , ولتعزيز هذه المعطيات اختار مخرج العمل عمر جمال تقنياً استخدام العدسات الواسعة , لم يقترب من شخصياته بل جعلهم جزءا من المكان وكأنهم حصيلته , وهذا ما سمح برصد المكان ومكنوناته البصرية بطريقة أوضح , وكأن كل تلك الفوضى الداخلية انعكست للخارج , أو العكس .
الفيلم من اخراج عمر جمال وهو مخرج مسرحي وسينمائي يمني ولد في بولندا ولديه عدة مسرحيات وأعمال سينمائية طويلة ( المرهقون هو فيلمه الطويل الأول ) وقصيرة كمخرج ومنتج, تمثيل كل من خالد حمدان و عبير محمد و سماح الأمراني, شارك الفيلم في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية ابتداءً من افتتاحه في مهرجان برلين العريق ثم مروره على قرطاج والقاهرة ( مسابقة آفاق السينما العربية ) وعمّان السينمائي لأول فيلم, ومهرجان مالمو للفيلم العربي وبالم سبرينغ وشيكاغو الذي نال جائزته الذهبية حاصداً احتفاءً نقديا جيداً, والأهم من ذلك هو قدرته على التعريف ببيئة قد تبدو للأغلبية مجهولة أو غير معروفة بما فيه الكفاية وتحتاج للكثير من الرصد والتشريح والتقصي كي تنهار عنها الصفة الإخبارية والريبورتاجية وتكتسي باللحم والدم .