جوى للانتاج الفني
الرئيسيةUncategorizedالمراوغة الزمانية المكانية في الدراما العربية

المراوغة الزمانية المكانية في الدراما العربية

لماذا الحديث عن الدراما العربية؟

الأمر ببساطة لأن مشاهدة الدراما, خاصة التلفزيونية أصبحت طقساً من طقوس الحياة اليومية الاعتيادية للكثيرين من الناس في مختلف أنحاء الأرض, مما دفع بعض الأدباء ربما من باب الأسف على تدهور مكانة الكتب المطبوعة بمضامينها المختلفة, لتسميتها براوية, وأحياناً رواية عصرنا الحديث, في ضوء الموقع التي باتت تحتله في وجدان وأفئدة المشاهدين, باعتبارها شكلاً تعبيرياً جماهيرياً, يبحر بهم خارج فوضى الواقع, ليقتطع جزءاً منه ويعرضه على الشاشة بشكل يتيح لهم رؤية المعنى الكامن فيه, وهو واقع لا يلفت انتباههم عادة لعاديته ومألوفيته لهم, إلا أن عزله ووضعه ضمن إطار معين يحول الواقع إلى فن يحمل تفسيراً إنسانياً للحياة, وربما لمشاقها!؟.

والحقيقة, إن تأطير المكان والزمان وحتى الملامح الإنسانية من خصائص فن الدراما, الذي يسعى عمداً إلى نقل محور الأحداث من حالة الشمولية إلى الخصوصية عبر الغوص في التفاصيل الصغيرة للمكان وحركة البشر فيه، في اطار جمالي يعكس صوراً من الواقع الحقيقي, وأحياناً يتجاوز الواقع ليضيف إليه معان جديدة ما كان يمكن الوصول إليها لولا الهروب من قيود الواقع بتفاصيله المحددة جداً, ليقدم تجارب انسانية يحسونها ويصدقونها, ويتفاعلون معها حسياً وذهنياً وفق معايير موضوعية تنتمي إلى فئة مستقلة من الواقع, هي أقرب للرؤى عن الواقع, ولكنها ليست هو.

بوستر مسلسل كسر عضم “السراديب”

تريد الدراما العربية أن تثأر من الماضي لتحاكم الحاضـــــر بمواربة، لأنها تخشـــى الصــــدام مع رقاباته المعلنة والخفية، ما يؤدي في المحصلة إلى تجهيل هذا الحاضر ونفيه

الأمر الملفت للانتباه في الدراما العربية أنها غالباً تستحضر لتثأر, وجل ثأرها منصب على الماضي, رغم أنها في الحقيقة تحاكم الحاضر بكل تفاصيله الإنسانية والزمانية والمكانية, وتسعى لإدانته وتجريمه وإعلان رفضها له, وفي الوقت ذاته تخافه بكل ما يعنيه من سطوة وسيطرة, وربما خوف من الصدام مع الرقابة المعلنة والخفية, وتدخلات الحكومات والأحزاب ووجهات النظر السياسية المهيمنة في تحديد زاوية النظر إلى الوقائع والأحداث في السردية الدرامية, حتى لو كانت تاريخية!.

خوفها، إضافة لشرطها الفني، يدفعانها في معظم الأحيان لتجهيل ونفي الحاضر, واستعباد الماضي ونسب جميع الشرور والأخطاء والعثرات والمؤامرات  إليه, عبر تأطير الحدث وفصله عن المحيط الخارجي بكل تفاصيله المميزة, وحصده في زمن مختلف بالترتيب الفعلي نفسه, وبالعلاقات الواقعية بين عناصره, وربما سلسلة المسلسلات التاريخية الفانتازية التي أخرجها المخرج السوري نجدة أنزور (البواسل, الجوارح, الكواسر ..الخ) مثال على تحطيم الدراما للتاريخ بمفهومه التقليدي ليصبح قابلاً لإعادة النظر في كل ما حدث أو يحدث أو سيحدث في قطيعة معرفية مع كل القواعد والمرجعيات التي يتم الالتزام بها في زمن ومكان معينين نتيجة لمجموعة من الأعراف والاتفاقات الاجتماعية, مما يُخرج اللغة لفظية أو غير لفظية, من دورها الموضوعي, الشارح والمفسر, إلى لغة لديها القدرة على الإمساك بالواقع, بل وتملكه, على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي ادجار موران في كتابه مقدمات للخروج من القرن العشرين.

ولأن لكل مجال وفاعلية إنسانية في زمن معين، إطارهما الخاص للتواصل الذي يتطور ويتبدل تبعاً لعوامل طبيعية وإنسانية قائمة, فإن الدراما العربية في هروبها من الحاضر عبر صياغة نوع من التمثلات مع الماضي, لإعادة حضوره, أو استعادة مثوله على الشاشة أمام المشاهدين, تقيم أطراً تواصلية مفرطة في عموميتها وتجريدها، قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان, لدرجة أن استدلالاتها التي تدعي المنطقية  “السببية”  تأتي فارغة من أي محتوى، سوى الحوارات المطولة, والاستجرار والاستطراد، والشفاهية التي لا يمكن أن تستثير صورة، ناهيك عن التعميم الانفعالي المقحم على الزمان والمكان، ما يعني الانتقال من مقدمة مُضللة إلى نتيجة حتمية ملزمة، لا علاقة لها بدوافع وأسباب موضوعية، أو فنية، وإنما بدوافع إيديولوجية, كما  بدا جلياً في كثير من المسلسلات الدرامية للكاتب أسامة أنور عكاشة (ليالي الحلمية, الراية البيضا, على أبواب المدينة وغيرها), أو بدوافع تجارية (تسويقية) محضة تسمح للعمل الدرامي بتجاوز كل الهيئات الرقابية في كل البلدان العربية, لأنها تعكس واقعاً طيفياً معزولاً, مسيطراً عليه, ومعادة صياغته, ومساوي حتى في ماديته للصورة بشكل تام ومطلق, والنماذج على ذلك أكثر مما تحصى خاصة في المسلسلات العربية المشتركة المنتجة في السنوات الأخيرة (ستيلو, الخائن, زوجة واحدة لا تكفي, أولاد بديعة …)!.

وقطعاً, هذه العملية لا يمكن نسبتها إلى الفن بمعناه التقليدي, لأنها تنتمي كلياً إلى العقل المحض, وتكاد  تقارب في دلالاتها مفاهيم ما بعد الحداثة (رغم أن ذلك ليس متقصداً كخيار فني), حيث البنية الزمانية المكانية, مرنة وغير محددة الملامح, وكأنها مجرد خلفية قابلة للإبدال والتغيير, مما يعني تدمير المفهوم الموضوعي والمنطقي للحيز الزمكاني الذي يقوم في النسيج الدرامي بدور موزع الأدوار على الفاعلين فيه من دون التفرقة بين بشر, وكائنات حية, وبين أحياء وأموات, موضحاً علاقات التوازن والتضاد والصراع فيما بينها, ومبرزاً وحدة الايقاع, وفارضاً لموضوع رئيس تلتئم حوله كل الانفعالات الحادة والعنيفة بين أصحاب الأدوار المرسومة الذين عادة ما يوثق الحيز الزمكاني بينهم لوناً من صلات القربى التي تحل في بعض عناصر الطبيعة محل الرحم والدم.

الجريمة الكاملة .. أن تكون عربياً

وهذه المشكلة في الدراما العربية التي تدعي الواقع وهي تهرب منه، وتحاكم الحاضر بسيوف الماضي، جعلتها متخمة بالأزمنة الغابرة، حيث يجري التقاتل فيها بالسيوف والحراب، وتعقد المعاهدات وتصان بكلمة شرف وعصمة عرف، وقَسَم بالشارب، بينما سماوات العديد من الدول العربية ملبدة بالطائرات من غير طيار، ودماء شعوبها معلقة في رقبة المعدن، وسلام عيشهم أو عدم سلامه مرهون بإرادة الأقوى والأشد سفاهة.. ناهيك عن استحضارها – أي الدراما – للعارض والعابر، لتحاكم الدائم والثابت، عبر فصل محتواهما عن الزمن والمكان الراهنين بسماتهما المميزة، ليُلقى بالمشاهدين في حضن الانفعال المحض، حيث المكان هلامي, والزمن مسطح، والساعة تقوم، والتغيير متعذر، والجريمة الكاملة أن تكون عربياً، على حد تعبير الكاتب محمد الماغوط, الذي تجسدت في أعماله المسرحية والدرامية السينمائية والتلفزيونية المراوغة الزمكانية  بأوضح أشكالها.

الكاتب والمفكر الراحل محمد الماغوط

 والذي لطالما احتل موقعاً متميزاً في ذاكرتي ووجداني، قام أولاً على معرفتي به “فرجة”، ككاتب مسرحي، قبل لقائي بشعره ونثره, وأظن أن جيلي بمعظمه (وكان في طور الطفولة في نهاية سبعينيات القرن الماضي) تعرف إلى الماغوط أولاً عبر المسرح, وهو دراما أصبحت أقرب للتلفزيونية, بعد أن بات التلفزيون منصة رئيسية لعروضه، وشكلت مسرحية “ضيعة تشرين”، ومن ثم مسرحية “غربة” جزءاً كبيراً، ليس فقط من ذائقته الفنية، بل أيضاً من فهمه لمعنى مواطن ووطن، بمعزل عن الصورة النمطية لكلا المفهومين؛ ذلك لأن الماغوط، لم يتبع الإطار التقليدي في تأصيله لهما، بل اعتمد على مسرحة التراجيدي في الحياة اليومية، وتحويله إلى صور لا تتفق مع توقعاتنا للأحداث، ولا تقدم حلولاً، ولا تجيب على أسئلة من نوع “ماذا حدث؟”، و”كيف ستسير الأمور؟”، حيث لا لحظات ذروة هناك، ولا زمناً محدداً بالمعنى الواقعي، ولا نهايات محتومة، بل بنية دائرية كل خطوة فيها تقود إلى الأخرى المعادة، لأن لا شيء في الكثير من البلاد العربية يتغير، لكي يستوجب الإنهاء والنظر إلى المستقبل!!

يختار محمد الماغوط بنية دائرية، دون لحظات ذروة، أو نهايات محتومة، لأن لا شيئ يتغير في الدول العربية لكي يستوجب الإنهاء والنظر إلى المستقبل

فالمراوغة في “ضيعة تشرين” كانت تجهيلاً وتهميشاً للمكان، وهجرة من الوطن، كدرب لا مفر منه، إلى اللامكان؛ والغربة في “غربة” كانت في الوطن، حيث هو فضاء منكوب مفتوح على اتساع الوطنين الصغير والكبير معاً؛ أما في “كاسك يا وطن” فقد تعمقت الغربة، وأصبحت غربة عن الذات في الوطن، لأن الحصول على اللقمة فيه كان يعني بيع كل الأشياء، بل حتى الأبناء؛ والأفق يمكن أن يكون وطنياً كما في فيلم (التقرير), أو  قومياً كما في فيلم (الحدود), أو كونياً إذا تشابهت الدوائر وتلاقت كما في مسلسل (وادي المسك)، وحيث الزمان يفقد تتابعه الخطي, كما يفتقد المكان معالمه الواضحة, ليرتبطا بأحاسيس وهواجس وتجارب, ومرجعيات كل مشاهد على حدة, وليصبح الواقع مطابقاً لما تمت مشاهدته, أي صورة يمكن الاحتفاظ بها داخل أي ألبوم!.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة