جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةزهرة فيرساي :  الليدي أوسكار كشاهد ملك على التاريخ

زهرة فيرساي :  الليدي أوسكار كشاهد ملك على التاريخ


فراس محمد

دراما أفول او انهيار الامبراطوريات لم تعد الدراما التي تُصنع في السينما العالمية في الوقت الراهن إلا فيما ندر,
دراما تصدى لها الأميركيان مارتن سكورسيزي في “عصابات نيويورك” 2004، وأوليفر ستون في “نيكسون” 1992،
والجزائري حامل سعفة كان محمد لخضر حامينا في “وقائع سنين الجمر” 1975،
والتونسية الراحلة مفيدة التلاتلي في “صمت القصور” 1994،
وخصوصاً تلك التي تتجرأ على ربط العامل النفسي بالعامل التاريخي، والبُعد الاجتماعي بالبُعد السياسي، والمبررات الخاصة بالمعطيات والأفعال العامة
..

“وردة فيرساي” دراما من هذا النوع الفخم، هو مانغا ياباني تم إطلاقه ما بين عام ١٩٧٩ و١٩٨٠ في أربعين حلقة.
مبدع هذا المسلسل (إخراج أوسامو ديزاكي، وتأليف ريوكو أيكيدا) تصدى لسؤال هام لدى روايته للأحداث التي سبقت الثورة الفرنسية والتي انتهت بإعدام لويس السادس عشر وزوجته النمساوية ماري انطوانيت عام 1793،
هذا السؤال ذو هامش واسع جداً ومربك، فما المسافة التي عليه الابتعاد بها عن كل أطراف تلك الرواية؟
انطلاقاً من معالجته لشخصية مثيرة للجدل كماري انطوانيت بدت ضحية الإشاعات ليومنا هذا،
ولا تنتهي بصياغة مبررات الثورة التي قام بها الفرنسيون للإطاحة برأسها،
وكم عليه أن يستقي من التاريخ، وبنفس الوقت المراوحة بحرية لتشكيل عجين شخصياته الحية ومعايشتهم للحدث دون بتر موقفهم منه.
في حال توجب الحديث عن هذه المرحلة الحساسة من تاريخ فرنسا والتي شكلت نوعاً ما شكل العالم الحديث،
والرصد بعين محايدة ولكنها متورطة،
فنقطة الانطلاق الأساسية عليها أن تمثل الحاجة للقراءة الموضوعية،
فجاء المسلسل اشبه ببورتريه لشخصية الليدي أوسكار، سليلة النبلاء، والتي تخطت عتبات النزاع بين كل الأطراف ورصدت المشهد التاريخي من زاوية واسعة، فهي الأنثى في عصر العسكر،
والقائد المُدان بالولاء للملكية في عصر الثورة، والعاشقة في عصر الاستقطاب العاطفي الحاد،
والرجل في عصر صالونات ماري انطوانيت الفارهة، والمحبوبة بإخلاص في عصر السياسة،
والتي اصطدمت بقعر الطبقة المسحوقة وسماء العائلة المالكة، رافضةً حماية الملكة كامرأة في لحظة نكران ومخلصةً لتدشينها ملكة زمانها في لحظة تخل،
فالمسلسل رصد هذا الانتقال بين ضفتين شديدتي الابتعاد عن بعضهما البعض تخللها ثورة وتغيير جلد.

هذه المسافة الآمنة التي سمح من خلالها المسلسل لأوسكار بالتورط في كل النزاعات،
أعطت صنّاعه القدرة على لمس هوية الحقبة، شكل العلاقات داخلها، تجاذبات السلطة والمال،
ما بين اعتدادها برجولتها والتقاطها للمحات انثوية داخلها، جعلها ملجأ دافئاً لشخصيات الفترة التاريخية المؤثرة (كلهم أحبها بطريقته)،
وسمح بمعالجة جندرية شديدة الحساسية والجرأة والتي مكّنت العمل من التسلل لتشعبات عاطفية وسياسية هامة فالصراع لم يكن بين ملكة وشعب ثائر،
بل اُحيل ليكون صراعاً بين ملامح الرجل والانثى داخل شخصية المسلسل الرئيسية والتي تشبه شكل كل صراعٍ داخل فرنسا القرن الثامن عشر،
فالكل ضحايا والكل جلاد، هذه الجزئية بالذات أكسبت المسلسل عظمته وخصوصاً مع انطلاق شرارة الثورة الفرنسية،
فالعمل أراد أن يعطي الأشياء تسمياتها الأخلاقية الصحيحة، حتى تلك التي خضعت لطهرانية سياسية شديدة في مراحل لاحقة من التاريخ،
لتتصاعد الدراما عبر الجزئيات المتناقضة، براءة ماري انطوانيت وغوغاء الشعب، سلطة النبلاء وحداثة منظّري الثورة، انفصال فرساي عن الواقع والواقع المتردي للناس، الرفاهية والعدم،
وأيضاً مرة أخرى، الأنثى والرجل (باعتبار أن ذلك ساهم في رسم الملامح العامة للمسلسل)،
القوة والضعف بما فيها من مشاعر تحولت لعبء على شخصيات المسلسل فصار كل بوح أشبه بلحظة ذروة وانفجار أو بالأحرى ثورة.

المسلسل تعاطى بحكمة كبيرة مع لحظة مخاض ضخمة ذكرتني بتحفتين سينمائيتين للإيطالي لوتشيانو فيسكونتي والأميركي جيمس ايفوري (الفهد ١٩٦٩ / بقايا نهار ١٩٩٣)،
فاعتمد العمل على تراكم الأحداث والمشاعر المرافقة لها مع كل تطور ليصل لمرحلة نادرة حقيقةً من النضج في رسم الانفجار الذي انتهى به،
وكان ذلك على الصعيد التاريخي والسياسي من جهة والذاتي والإنساني من جهة أخرى،
لتنسدل الستارة مع كل فصل مواربة على فصل جديد من الانهيار, كما التراوح بين قصر فرساي وأحياء باريس الفقيرة، وكالتراوح بين الكره والحب، السلام والحرب،
البراءة والمكر، هذا المزج بين الأضداد والمُصاغ بعناية كبيرة سمح للمسلسل بأن يكون أشبه بوثيقة تاريخية أو شهادة على عصر،
ولكن الأهم من هذا هو خلق شخصيات مؤثرة بشدة في هذا التاريخ ومؤثرة بشدة فينا نحن كمشاهدين من خلال ٤٠ حلقة توزعت خلالها الأحداث للحفاظ على الإثارة التي انفجرت على شكل ثورة،
والمشاعر التي احتدمت بين نساء العمل على شكل نزاعٍ حول سلطة مهددة في أي لحظة بالسقوط نحو القعر.

يترافق كل هذا التداعي مع موسيقى كوجي مكاينو العظيمة التي أعطت للمسلسل شكله الملحمي والتراجيدي.
وكان مترجماً حساساً وملهماً ومترافقاً مع كل فصول المسلسل في حلقاته الأربعين،
وخالقاً لعنصر ربط شديد الجاذبية مع شخصيات المسلسل وخصوصاً على الصعيد العاطفي،
الموسيقى التي يتذكرها مواليد الثمانينات حينما تمت دبلجة النسخة الأولى من المسلسل وعرضه منتصف التسعينات على التلفزيون السوري
ولا أبالغ بالقول إنه شكّل نسبة جيدة من وعي ذلك الجيل،
ولكن لم يُعرض كاملاً لجرأة الكثير من مفاصله،
فكثير من مُشاهدي هذا المسلسل بنسخته المدبلجة (لأصوات عراقية) فاتهم الكثير من ملامح علاقة الليدي أوسكار بماري انطوانيت وروزالي وشارلوت على التوالي،
وأيضا علاقة الحب العاصف التي نشأت بين أوسكار واندريه والتي فجرت الأنثى داخل أوسكار كشخصية اعتادت العسكرة والمجتمع الذكوري ومخالطة الرجال والانتماء لهم،
ومن المؤكد أنه قد فاتهم العديد من حيثيات قضية القلادة التي كانت بمثابة فتيل الثورة الفرنسية (التي لم تسلم من الانتقاد والتشريح)،
ولا أفهم حقيقة وخلال مشاهدتي هذه المرة للمسلسل كيف تفاعلنا معه خلال عرضه الأول تسعينات القرن الماضي وهو على هذه الدرجة من البحث والتأريخ والاستقصاء الفكري والجنسي والسياسي وراء ثورة غيرت شكل العالم القديم وأسست لمنطق الجمهورية وأطلقت معايير الحرية والعدالة والمساواة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة