جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيالكوميديا السورية .. الكوميديا التي لا تُضحك أحداً ..

الكوميديا السورية .. الكوميديا التي لا تُضحك أحداً ..

صهيب عنجريني

أية أعمال لأي جمهور؟

كم عدد المسلسلات السورية الكوميدية التي أثارت ضحكنا في الأعوام العشرة الأخيرة؟

«مع الضحك تصير الأشياء أكثرَ خفةً مما ظهرت عليه، ومن ثم نتحررُ منها، وتكف عن قهرنا تحت وطأة جديتها القاسية».
يتكرر بين وقت وآخر اقتباس هذه العبارة من «كتاب الضحك والنسيان» للروائي التشيكي ميلان كونديرا،
الذي رحل قبل أيام تاركاً وراءه عاصفةً من الجدل بين ممجد لتجربته ومسفه لها.
عاصفة وصلت حدتها درجة مثيرة للضحك، رغم أنها ليست عاصفة كوميدية بشكل من الأشكال.
لا غرابة في ذلك، فليس كل ما هو مُضحك كوميدي بالضرورة (خُذ مثلاً عشرات التصريحات الحكومية).
أما العكس فلا يجب أن يصح في الأحوال الطبيعية،
إذ ــ وعلى خلاف التراجيديا التي لا يُفترض بتأثيرها أن ينعكس في صورة بُكاء محتم ــ ينبغي أن يكون «كل ما هو كوميدي مثيراً للضحك»،
هذا أحد الثوابت التي ارتبطت بالكوميديا منذ عصر الملهاة الإغريقية،
قبل أن يتغير الحال في عصر الدراما العربية، مُتضمنة السورية طبعاً!

هل تبدو الجملة الأخيرة ضرباً من المبالغة؟ أرجوك، خُذ نفساً قبل أن تحكم بهذا،
ثم تذكر: كم عدد المسلسلات السورية الكوميدية التي أثارت ضحكك (من كل قلبك) في الأعوام العشرة الأخيرة؟ والمقصود هنا طبعاً كونها أثارت ضحكك لجودتها، أي أنك ضحكت منها، لا عليها!

وبالمثل، كم عدد المسلسلات الكوميدية التي لم تُضحكك برغم أنها كانت ذات مستوى معقول، وربما جيد،
بل هي بالكاد انتزعت منك ابتسامةً أو بضع ابتسامات؟ (إن كان لا بد من ضرب أمثلة فلعلي أُذكرك بـ«الواق واق» لممدوح حمادة والليث حجو / 2018).

طيب؟ أين يكمن الخلل إذاً إن كانت المادة الفنية مصنوعة من خامة جيدة، وبطريقة جيدة،
لكنها فشلت في تحقيق أبسط أهدافها؟ في المضمون؟ أم في الأسلوب؟ أم في الجمهور؟؟ أم في كل ذلك في آن واحد؟
لا يزعم هذا المقال القدرة على تقديم جواب شاف،
وليس هذا ما يتوخاه بقدر التحريض على التفكير لعلنا نكتشف السبب معاً.

قد يُفيد هنا استعراض سريع لبعض أبرز محطات الكوميديا التلفزيونية السورية،
وهي التي استعارت أولى ملامحها من الثنائية الخالدة «لوريل وهاردي» عبر نسخة سورية خالدة بدورها هي «غوار الطوشة، وحسني البورظان»،
ومعهما مجموعة من الشخصيات، من ياسينو، إلى أبو صياح، وفطوم حيص بيض، وبدري أبو كلبشة.. إلخ.

كانت المقالب اللطيفة وغير المؤذية مهما بلغ لؤمها هي العنوان العريض الذي تفرعت عنه حكايات وقصص مختلفة في معظم نسخ تلك الحقبة،
من «حمام الهنا» (1967، إخراج فيصل الياسري)، إلى «مقالب غوار» (1968، إخراج خلدون المالح)، إلى «صح النوم» بجزأيه (1969، إخراج خلدون المالح).
حققت تلك المحطة فرادتها لا بسبب أسبقيتها فحسب،
وليس فقط بفضل التوليفة المُتقنة التي كان عرابها الأبرز نهاد قلعي،
بل وأيضاً من طبيعة تلك المرحلة في الشارع السوري برمته.
كانت وسائل الترفيه الحديثة شبه معدومة، وجاء التلفاز ليقدم رحلة من الدهشة:
كيف يمكننا أن نرى ونسمع بشراً مثلنا عبر بلورة سحرية؟!
وفوق ذلك ليسوا أشخاصاً خارقين، بل هم لحم ودم، يشبهوننا، بسطاء ورائقون، و«يشيلون الهم من القلب».

لم يبرز بعدها ما يُمكن أن يُعد محطة بارزة، بما في ذلك «وادي المسك» (1982، تأليف محمد الماغوط ودريد لحام، وإخراج خلدون المالح).
كان لا بد من الانتظار بضع سنوات حتى تبدأ «مرايا» ياسر العظمة بالتبلور لتحجز لها مكاناً بالغ الأهمية في هذا الإطار،
وبرغم أن السلسلة كانت قد بدأت في العام 1982 (إخراج هشام شربتجي)،
فإن المكانة صُنعت بتراكم الأجزاء،
وتزايد عدد اللوحات التي تعرض موضوعات كانت وقتها «مُفرطة في الجرأة». كانت لتلك المرحلة خصوصيتها في الشارع السوري،
إذ جاءت عقب سنوات دامية تعاظمت خلالها، وبعدها، القبضة الأمنية،
وتفاقمت مخاوف الناس من أي حديث هامس قد يُشم منه تذمر أو انتقاد لظاهرة ما،
وإذ بمسلسل كوميدي «يذهب بعيداً» في قول كثير مما يخطر في الأذهان، وبأسلوب جذاب.

بمرور السنوات حافظت «مرايا» على مكانتها، ولو أن بريقها أخذ بالخفوت خاصة مع تشابه الموضوعات،
فللفساد ومشكلاته ملامح متشابهة ولو تبدلت الأقنعة،
وبما أن هذه المادة كانت العنصر الأكثر اجتذاباً للجمهور في خلطة «مرايا» فقد وقعت الوجبة الكوميدية في فخ الروتين،
ليشبه الأمر تكرار صنف طعام واحد سيفقد قدرته على إمتاعك بمرور الوقت، مهما كنت متعلقاً به.

هكذا، صارت الساحة مناسبة لبصمة جديدة، مختلفةٍ في الشكل والقالب الحكائي هذه المرة مع «عيلة خمس نجوم» (1994، تأليف حكم البابا، وإخراج هشام شربتجي)،
وعلى نجاحه نهضت بقية الأجزاء، قبل أن تبهت بدورها.

في «عيلة خمس نجوم» كانت الكوميديا قائمة على المبالغة،
ونجحت في اجتذاب الجمهور إلى فسحة من التهريج بمعناه الفني الجميل.
إنها كوميديا لطيفة، سهلة الهضم، تأخذك بعيداً عن همومك الكبرى، ومشكلاتك الحياتية العويصة،
وتتكئ على أصناف من التنكيت المألوف، والتنميط الذي يستسيغه الشارع.

في الفترة ذاتها جاء «يوميات مدير عام» (1995، تأليف زياد الريس، وإخراج هشام شربتجي) ليقدم مزيجاً ذكياً،
بين بعض أدوات «مرايا»، وبعض أدوات «عيلة خمس نجوم»، في خط درامي «يُفصفص» مشكلات البيروقراطية،
وما أكثرها، فوقع الجمهور في غرام هذا المسلسل «الجريء» الذي يعرض له كثيراً مما يواجهه في دورة حياته اليومية.

بعد أعوام قفزت سلسلة «بقعة ضوء» لـ«تُكسر الدنيا».
كانت اللوحات أشبه بمائدة مفتوحة،
تحتوي كل ما قد يخطر في بالك، البطولة جماعية، الأقلام عديدة، والأفكار متنوعة،
القالب ذكي وخارج عن المألوف، الموسيقا جذابة، الوحدة الزمنية قصيرة، والإيقاع في منتهى الرشاقة.
إنها وجبة تليق بالألفية الجديدة وجمهورها بالفعل. مرت السنوات،
وتتالت «البُقع»، ثم بدا أن الزمن تجاوزها.

المفاجأة كانت مع «ضيعة ضايعة» الذي ذهب بجمهوره إلى هامش الزمن ليقدم «الناجي الوحيد»،
مع ثنائية كوميدية مُدهشة تستلهم من جديد «لوريل وهاردي»،
لكنها لا تلعب وحدها، بل هي محاطة بكاركترات لا تقل عنها جاذبية.
القالب الحكائي مُتخيل لكنه ليس خيالياً، الشخوص بسيطة حد السذاجة في بعض الأحيان، لكنها آسرة ومحُببة، والصورة بديعة.
خلطة سحرية فيها كل ما قد يحتاجه متلق صدعته عشر سنوات من التسارع المخيف.
مع العقد الثاني من الألفية تغير كل شيء. انقلبت الحياة رأساً على عقب.
لا بفعل الحرب وإرهاقاتها فحسب.
إنه ببساطة زمن الفضاءات المفتوحة الذي بدا وكأننا دخلناه بلا مقدمات.
لقد وجد صانع الدراما نفسه أمام جمهور لم يعد يكفيه أن يكون متفرجاً فحسب.
جمهور بات قادراً على قول ما يشاء ساعة يشاء، وبالطريقة التي يشاء.
ضغطة زر تفصله عن «اللايف» ليصبح هو المحتوى وصانعه،
زد على ذلك أن التهاوي المتسارع في كل المنظومات التي تعودنا عليها غير شروط اللعبة بشكل جذري.
لم تعد «لوحات الكوميديا الناقدة» مادة مضمونة الجاذبية،
ولم تعد المحاكاة، ولا المعادلات الرمزية مستساغة (الواق واق نموذج بارز هنا)،
وبمرور الوقت باتت حياتنا البائسة «مميتة من الضحك»،
لكنه ذلك الضحك النابع من قهر لا يعطي فرصة للأشياء كي تبدو «أكثر خفة»،
كل شيء بات شديد الوطأة يا كونديرا، كل شيء.
أي كوميديا إذاً ستكون مناسبة للمرحلة القادمة وجمهورها؟ هذا هو سؤال المليون دولار يا عزيزي صانع الدراما.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة