يهدف هذا المقال لعرض بعض النماذج من نصوص الأغنيات العربية،
التي استخدم فيها كتابها تقنية القص(الحبكة، الشخصية، الصراع،الراوي، الزمان، المكان، القفلة…إلخ)،
لإضفاء تجديد على حالة مراوحة كلمات الأغنية في حالة شعورية واحدة،
وما يثبت أن الأجناس الأدبية، بما فيها نص الأغنيات متعالقة (متضايفة) مع بعضها بعضاً،
فروح الحكاية موجودة في بعض النصوص.
يعني ذلك أيضاً، أنني لن أناقش مكوني الأغنية الآخرين: اللحن، والغناء،
إلا ما كان ضرورياً من شكل الأغنية (طقطوقة، طربية)، وما قد ينتج من ذلك نجاح أو إخفاق في الوصول للمستمعين.
1 ـ أغنية «أنا وسهرانة» لفيروز (من كلمات وألحان الأخوين رحباني):
تنتظر فتاة أن يأتي حبيبها، وهي وحيدة في البيت، فتسمع وقع خطوات،
لتعتقد أنه أتى، تزيح الستارة، وتضيء أنوار البيت، كي يتبين الحبيب أنها ساهرة، وتهيء نفسها، وتهيء ما قد تقدمه له من ضيافة،
لكن الخطوات تبتعد، ولم يقرع الحبيب الباب، ولم يدق قلب العاشقة، تطفئ الفتاة الضوء، وتبقى ساهرة، وينبلج الصبح وهي ساهرة.
من السهل بيان خط القص في حبكته: انتظار الحبيب، والعمل لاستقباله، وبعد الخطوات، والعودة إلى حالة الوحدة. أما عقدة القصة (ذروتها)،
فهي في خيبة الأمل، حين تكتشف الفتاة أن الخطوات ليست لحبيبها، لحظة التنوير أو الحل هي في عودتها إلى حالتها الأولى من السهر خائبة الرجاء،
وقفلة القصة، أنها ظلت ساهرة بالرغم من طول الانتظار، ما قد يحيل إلى ما عانته من خيبة أمل مؤرقة، أو إصرارها على الانتظار، فقد يعود الحبيب.
يتجلى الصراع الداخلي للشخصية في النص من معاناتها في الوحدة والانتظار،
ومن ثم خيبة الأمل من عدم قدوم الحبيب، والانتظار والسهر من جديد؛ إن الانتظار قاس،
خصوصاً حين يفضي إلى لا شيء.
الأغنية مسرودة بضمير الأنا، ما يساعد على الإيحاء بوقوعها فعلاً،
فالسرد بضمير الأنا، هو أقوى الطرق للإيحاء بواقعية القصة.
على الرغم من أن الأغنية بقالب الطقطوقة، فلم يمنع ذلك من تمرير حالة الشخصية في المقاطع (الكوبليهات)،
التي قد تقطع الزمن السردي،
فانثالت الأغنية دون مشاكل، لتسرد ما حصل، وليقفل المذهب ما بدأه النص بحالة السهر.
2 ـ أغنية «سألتك إنتي مين» لـ هاني شاكر:
يتعرف بطل النص إلى فتاة مخادعة كذابة، فيحبها من كل قلبه،
ويسألها عن ماضيها (بغض النظر أنه يحق له ذلك أم لا)،
فتؤكد (على الطريقة الشائعة)، بأنها معه تعيش التجربة الأولى، فيزيده ذلك حباً لها، كونه الرجل الأول في حياتها،
لذلك فقد كان وفياً لذلك الحب، بينما تخدعه الحبيبة، لأنها لا تزال تحب رجلاً من ماضيها،
على الرغم من تأكيدها له، أن ماضيها بعده،
قد مات كله! فيقرر هجرها على الرغم من حبه لها، لأنها خدعته خديعة كبرى،
ولأنها تهوى كسر عشاقها، بالتعويض عن ضعفها الداخلي،
تنتهي القصة بإسدال الستار على العلاقة، لأن البطل العاشق، لا يستطيع تحمل العذاب ليل نهار.
لا شك بأن القصة مطروقة، لكن الملفت فيها هو قدرة الأغنية على توصيل حبكة القصة،
وبناء شخصية الأنثى البطلة فيها، بالإشارة إلى أزمتها النفسية في إيهام عشاقها بالحب،
كتعويض عن نقص داخلي فيها، والكذب جراء ذلك، لتكتمل اللعبة،
فما يهم البطلة هنا، مصلحتها الشخصية، على حساب مصلحة عاشقها الوفي.
من السهل تلمس ذروة الحدث، عند اكتشاف العشيق خيانة عشيقته،
والحل في هجرها، والقفلة في إرسالها الساخر له «برقية اعتذار»،
إن الملفت في هذا النص اعتماده على شخصية مركبة للبطلة،
في مقابل شخصية عادية (مسطحة) للبطل، وما ينشأ عن ذلك من تضادات وصراعات داخلية وخارجية لكلا البطلين في الحبكة.
إن هذا الشكل من النص، لا يستوعبه شكل الأغنية الطقطوقة، نظراً لطوله، ولغناه الدرامي،
فجاء أقرب إلى قالب الأغنية الطربية، مع موال افتتاحي، يساعد في تلوين الحالة اللحنية خدمة لبنية النص.
3 ـ القصة في القصيدة المغناة: «قارئة الفنجان»:
لا شك في أن الشاعر الراحل نزار قباني، لم يكتب تلك القصيدة بقصد أن يلحنها أحد،
ويغنيها عبد الحليم حافظ، لكن المؤكد، أن شهرة هذه الأغنية، تعود إلى جمالها كقصيدة،
وإلى البناء القصصي فيها، فهي تُفتتح بفعل ماض لقارئة فنجان جالسة والخوف بعينيها،
ما يحبس أنفاس المستمعين (لا شك أن المستمعين هنا، أكثر من القراء!)، ثم يكشف السرد،
أن صاحب الفنجان عاشق ضعيف، يبحث عن معشوقته، وهو عرضة لأي إيحاء، يدله على طريقها،
لذلك لجأ إلى قارئة فنجان!.
الحبكة هي في الحصول على المرأة الحلم، فائقة الجمال، تسكن في قصر مرصود،
ومن يجدها، سيموت مفقوداً، لأنه حصل على المستحيل،
من أجل ذلك، سيعيد العاشق رحلة «عوليس» في الأوديسة بحثاً عن المرأة، ويتحمل الصعاب، ويبكي،
وذروة الحبكة في عدم الوصول، والرجوع خائباً، فالطريق مسدود،
مع ذلك، فإن الحب يستأهل هذا الصراع من أجل امرأة «عيناها سبحان المعبود»…إلخ،
إننا هنا في صراع لنيل المستحيل.
الملفت في هذه القصة القصيدة وجود راويين (صوتين)، العاشق الذي يروي بضمير الأنا: «جلست، تتأمل فنجاني المقلوب»…
والراوية «قارئة الفنجان» التي تروي بضمير الـ «أنت» :»بحياتك يا ولدي»… «ستجوب بحاراً وبحاراً» حتى يغلب هذا الصوت صوت الراوي بضمير الأنا، ما يجعل القصيدة ملونة بصوتين للروي.
تقترب القصيدة من تقنية الحلم، فما تراه قارئة الفنجان، يشبه ما قد يراه العاشق النائم في بحثه عن حب مستحيل،
فنحن لم نتأكد، فيما إذا كانت ما تراه المنجمة حقيقياً، قد حصل،
أو أنها تحث العاشق على المضي قدماً خلف تلك المرأة،
هذا يكسب القصيدة بعداً درامياً إضافياً، لجهة الإحجام والإقدام،
عدا عن صراعات البطل الداخلية والخارجية في رحلته للحصول على عشيقته المستحيلة،
إن مسكوتاً عنه في القصيدة، لم يقله الراوي ـ بطل القصة ـ لقارئة الفنجان، ولم يعترف به،
حول حبيبة قلبه، يشي بأن حالته التي تقرأها المنجمة في الفنجان، هي حالته في الحقيقة،
وقد تكون ليست حالته، لأن الراوية تستخدم الفعل بصيغته المستقبلية: «ستفتش عنها» و»ستسأل عنها…»
والأفعال المضارعة المعطوفة على هذا الفعل «وتجوب بحاراً…»..إلخ.
يحضر هنا عنصر مهم في القص، وهو التلاعب بالزمن، وتكريسه كعنصر صراعي في القصة،
فرحلة البطل طويلة في البحث عن امرأته المستحيلة،
فهو زمن مستقبلي استشرافي، ممتد من قبل مجيء البطل إلى المنجمة،
وسيمتد لاحقاً، ما يعني أن اجتماعه بالمنجمة، هو لحظة في زمن قصة حبه قبل وبعد.
ختاماً، أعتقد أن البنية الحكائية (السردية) في نصوص الأغنيات الثلاث،
قد ساعدت في وصول الأغنية إلى المستمعين، لأن الحكاية تشد، وتثير الفضول لمعرفة نهايتها،
وتحبس الأنفاس للوصول إلى حل عقدتها، وتضع المتلقي طرفاً من أطراف صراعاتها،
يُضاف ذلك إلى عنصري الأغنية: اللحن وانفعال المطرب في أداء حكاية أغنيته، فهو متلقيها الأول.