عمار أحمد حامد
فاز الكاتب البولوني فلاديسلاف ريمونت (1867 ـ 1925) بجائزة نوبل للآداب عن روايته “الفلاحون” عام 1924، التي تعتبر من أهم الأعمال الروائية التي تصور حياة الريف وسكانه المحكومين بالعادات والتقاليد والموروث الديني الذي يطغى على أحداث الفيلم، فالكنيسة موجودة وكذا المصلين.
لكنهم بعيدون كل البعد عن أي تعاليم دينية. وقد نشر ريمونت روايته هذه على حلقات في إحدى الصحف البولونية التي كانت تصدر في تلك الفترة من عام 1904 وحتى عام 1909،
حيث لاقت وقتها رواجا كبيراً لدى القراء. وتدور أحداث الرواية في قرية (ليبسي) وهي قرية صغيرة جداً تكاد أن تكون منسية. يلعب الطقس دوراً اساسياً في الرواية والفيلم
وكيف لا، وحياة الريفيين تعتمد على الطقس وأحواله وفصول السنة،
حيث البذار والزرع والحصاد. لذا غطت الرواية فصول العام من الربيع وحتى الصيف. حيث اختار الكاتب عائلة فقيرة هي عائلة ماسيج بورينا التي تعتمد عليها في أحداثها.
دخلت دار KIKA في مدينة ( كراكوف) في بولونيا، وهي دار عرض سينمائي صغيرة فيها صالتان تعرضان أفلاماً حديثة جداً بسعر تذاكر معقول نسبياً. لكن هذا لم يكن هو السبب الرئيس الذي جعلني أذهب إلى هذه الدار الصغيرة، بل كان السبب هو ذلك الجو الثقافي الذي تجد نفسك فيه عندما تلج الباب. مقهى صغير يقدم مشروبات ساخنة وباردة، ملصقات لأفلام بولندية قديمة، مكتبة صغيرة تتناول فيها الشاي أو القهوة وأنت تستمتع بقراءة كتاب ما، ريثما يحين موعد العرض.
كنا أمام خيارين من العروض التي تقدمها الصالة، إما فيلمJeanne du Barry لمخرجه Maiwenn من بطولة جوني ديب، أو فيلم بولوني CHLOPI من إخراج Hugh Welchman, Dorota Kobiela وكلا الفيليمين من إنتاج عام 2023. فاخترنا الفيلم الأخير. لأننا لانعرف الكثير عن السينما البولونية. وثانيا لأن من قطعت لنا التذكرتين افادتنا أن الفيلم مقتبس عن رواية للروائي البولوني فلاديسلاف ريمنونت، قالتها بزهو!
لم تكن بداية الفيلم ومشاهده الأولى مشجعة لنا، حيث اعتقدنا أننا وقعنا (في مقلب) حيث كنا نريد أن نشاهد فيلما “عادياً” لا (فيلماً متحركاً) animation. أتذكر مرة أن المخرج الكبير مصطفى العقاد قال: “إن لم يشدك الفيلم من الدقائق العشرة الأولى فهو فيلم فاشل”. وهذا ما حدث لنا: انشددنا إلى الفيلم بعد الدقائق العشر الأولى، وما نراه على أنه (رسوم متحركة) هو في الواقع إعادة اشتغال على فيلم من ممثلين واقعيين ليصبح كفيلم (animation). اشتغل المُخرجان مع رسامين شباب ومحترفين (أكثر من مئة فنان) لتحويل الفيلم إلى animation. ووجدنا أنفسنا نشاهد فيلماً خارج المألوف أداءً وفرجة بصرية وتوظيفاً للموروث الريفي (موسيقى، وغناء، ورقص)… فبدأنا نشاهد الفيلم بكثير من الاهتمام. وتذكرنا المشاهد الأولى بفيلم زيميكس (فوريست غامب) من بطولة توم هانكس حيث يلفت نظره مشهد من مشاهد الطبيعة/ ريشة طافية على الماء، وكيف يتعامل معها بدهشة، كذلك يلفت نظر Jagna مشاهد من الطبيعة وتؤثر بها وتعاملها بكل دهشة حنان.
يتناول الفيلم قصة حياة أسرة ريفية مؤلفة من أم وابنتها. البنت (Jagna) في العشرينيات من عمرها، (لعبت الدور الممثلة الشابةKamila Urzedowska ، 28 عاماً)، كان ذنبها هو جمالها الآخاذ، فكانت مطمع كل رجال وشباب القرية الصغيرة، ومصدر غيرة نسائها. تقع Jagna في حب رجل متزوج لديه أولاد هو (Antek) الذي لعب دوره الممثل المخضرم Robert Gulaczyk، ويعيشان قصة حب معاً، حيث يقع حماه، والد زوجته، في غرام هذه الفتاة ويسعى إلى الزواج منها، فيقدم لوالدتها مهراً قدره ستة أفدنة، وتحت نير العوز والفاقة توافق الأم والفتاة مجبرتين، مما يؤدي هذا إلى خلافات تنشب يين زوجة أنتيك وأبيهاMiroslaw Baka. والسبب الرئيس لهذه الخلافات كان بسبب تبذير الأب لأمواله وزواجه من ابنة تصغر بناته. مما يؤدي بالأب إلى طرد عائلة ابنته من مزرعته.
يعتبر مشهد زواج Jagna من الأب (ماسيج) من أجمل مشاهد الفيلم فالمخرجان نجحا في تقديم مشهد بصري اختلطت فيه الأغاني الشعبية، ورقصات الأعراس، والموسيقى الريفية التي قام بوضعها Łukasz Rostkowski. وأفسح المخرجان المجال للرقص والموسيقا الريفية لتلك الفترة الزمنية التي وقعت فيها أحداث الفيلم.
لكن Jagna تبقى على حبها لـ (أنتيك) حتى بعد زواجها، وفي أحد الأيام يكتشف زوجها خيانتها له مع (أنتيك) زوج ابنته، فلا يفعل شيئاً. فحبه لها عطل لديه فعل الانتقام منها ومن (أنتيك)، وينتشر الخبر في القرية انتشار النار في الهشيم، وفي إحدى المعارك التي دارت رحاها بين رجال الشرطة الذين جاؤوا ليستولوا على أراضي القرية من الفلاحين، يصاب الأب إصابة بالغة في رأسه، فينقذه (أنتيك) ويحمله إلى المنزل. ولكن بعد أشهر يموت (ماسيج) متأثرا بإصابته، وقبيل وفاته يخبر ابنته زوجة (أنتيك) عن مكان الأموال التي يخبئها، ويحرم منها (Jagna)، التي لا تفعل شيئاً، وتعود بعد أيام إلى زوجة (أنتيك) وتقول لها “إن كان سبب عدائك لي بسبب ما كتبه لي أبيك/ زوجي من مهر مقداره ستة أفدنة، فها هو صك الملكية خذيه، لا حاجة لي بالأرض”.
في مجتمع يخضع للتقاليد أكثر مما يخضع للدين، تلوك الألسنة الفاسدة شرف Jagna بالسوء ويتهمونها بالعهر وارتكاب الزنى مع رجال وشباب القرية، فيهبوا لينتقموا منها شر انتقام، وعندما يعرضون ألأمر على عشيقها (أنتيك) ويسألونه ما رأيه يقول لهم بكل خنوع ونذالة (أنا مع القرية مهما كان رأيها)، فيتخلى عنها ويتركها لمصيرها المشؤوم عندما شعر أن مصالحه ستتضرر، ويذهب إلى حقله حاملا منجله (يذكرنا بمنجل الموت في الرموز القديمة)، ويصل اهل القرية المتعطشون للانتقام إلى منزل الفتاة، ويعرونها من ثيابها، ويأخذونها بعيداً عن القرية ويلقونها في البراري جزاءً لها.
عارية من كل ما يستر جسدها يبدأ المطر بالانهمار غزيراً، فترفع Jagna رأسها ونرى الأوساخ في جسدها يغسلها المطر، فترفع رأسها باسمة والمطر يغسلها و(يعمدها)، كأنها تولد من جديد. ولأول مرة في مشاهد الفيلم يتحول وجه الفتاة إلى الصورة الحقيقية، لوجه لممثلة Kamila وللشخصية Jagna، حيث يقول لنا المخرجان هنا إن حكاية الفيلم كانت خيالية (ربما) لكنها تجسدت واقعاً لا زلنا نحياه. فالماضي لم يمت، لازال هناك أشياء منه فينا حتى يومنا الحاضر.
إنَ تكوين الشخصيات التي تم بناؤها بهذه الطريقة في الفيلم يبرز نمطًا ميلودراميا غريبا باعتباره السمة السائدة في رواية ريمونت الواقعية. التركيز عليه يعطي انطباعا بالعودة إلى الحلول السهلة بعض الشيء.. فالصراع بين الروح الرومانسية والقيود الاجتماعية، بين الاختيار الحر والزواج المدبر، هو موضوع عولج كثيراً في الأدب والسينما. يمكن بسهولة مقارنة ثالوث الأبطال في فيلم “مولان روج” (2001) لباز لورمان، الذي تعامل مع النمط المذكور أعلاه بسخرية ما بعد الحداثة تماما. فــ Jagna هي، إلى حد ما، Satine / نيكول كيدمان في مولان روج/ رمز الحب النقي، لكنها جعلت نفسها سلعة تباع دون أي شعور برغبة حقيقية نحو من سيمتلكها. فتصبح ممزقة بين أن تكون زوجة غنية (أغنى مالكة في القرية) وبين حلمها أن تحب وترقص كأي فتاة في مثل عمرها، لهذا نجدها في كثير من مشاهد الفيلم ترسم طيوراً وتقصها على أشكالها وتلصقها على جدران منزلها تعبيراً عن توقها إلى الانطلاق والحرية, كما تقول لأنتيك حالمة “يوما ما سأطير بعيدا”. الخصم الرئيسي هنا، بالطبع، يجب أن يكون شخصية رجل ثري مؤثر ومثير للاشمئزاز.. علاقتا الحب كلاهما مُحرمتان (فيلم مولان روج وفيلم الفلاحون). حبُ تدور أحداثه في ملهى يدعى ( مولان روج) وحب تدور أحداثه في قرية (ليبسيك).. كلا علاقتي الحب هاتين تتعرضان لاختبار قاس ومماثل: هل سيدافع نقاء المشاعر عن نفسه ضد الثراء ولعبة المصالح القاسية؟ فصاحب مولان رمز المال والسلطة: كما يكرر صاحب مولان روج نفس الكلام: “يجب أن يستمر العرض” فكلا الشخصيتين (الزوج في فيلم الفلاحين وصاحب مولان روج)، إلى حد ما، قوادان، يقنعان النفوس البريئة بالبقاء في ملهى من الرغبات؛ حتى لا تعود إلى شارع الفقر مرة أخرى.
كانت Jagna تطيل النظر إلى السماء، وتحلم بالانفلات من واقعها الأليم، فتبتسم للشمس والسماء والفراشات، والطيور. دون أن تعي واقعها الأليم الوحشي على الأرض إلا بعد فوات الأوان.
تم اقتباس رواية ريمونت “الفلاحون” عدة مرات في السينما كان آخرها عام 1973 من توقيع المخرج Jan Rybkowski ومن بطولة Wladyslaw Hancza و
Emilia Krakowska، وعاد بعد خمسين عاما المخرجان DK Welchman و Hugh Welchman ليحطما به شباك التذاكر في أوروبا، حيث كان عرضه الأول في منتصف شهر أيلول / 2023. وتم ترشيحه لجائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي لدورة الأوسكار القادمة، 2024.
نعم.. هناك أفلام من دول لا نعرف عنها إلا القليل، وبولونيا لها تراث وتاريخ حافلان سينمائياً يغفل عنهما الجميع بسبب الأنوار المبهرة للسينما الهوليوودية.
“الفلاحون” فيلم يلامس الروح، نحن بحاجة إليه.