جوى للانتاج الفني
الرئيسيةقضيةالعود السوري لماذا لا يوجد مدرسة عزف سورية؟

العود السوري لماذا لا يوجد مدرسة عزف سورية؟

علامة فارقة في الصناعة وهوية ضائعة في العزف

ليس جديداً على العود السوري شهرته ورغبة العازفين من مختلف أنحاء العالم باقتنائه، والمطلّع على عمليات تصدير العود السوري إلى الخارج، سيدرك على الفور كم أن الطلب عليه مرتفع، لدرجة أن الحرب المدمرة، التي توقفت فيها الكثير من الأعمال، لم تؤثر في ازدهار صناعته وإنما وضعت عقبات أمام تصديره فقط.

وتُوّج الاعتراف بتفوق العود السوري حين تم إدراجه من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) على قائمتها للتراث الثقافي غير المادي، في كانون الأول من العام الماضي 2022، “نظراً إلى تميزه بصوته الفريد ومنحنياته المصنوعة يدويا بدقة فائقة”.

الصانع والعازف وسام الياسين يقول إن صناعة العود السوري ظهرت في دمشق وحلب أواخر القرن الثامن عشر على يد عائلة النحات الدمشقية الشهيرة، والتي سُميت منتجاتها بـ “أعواد النحاتين”، عبده النحات وولده الياس، وحنا وتوفيق وروفان وجورجي وأنطون، هذه العائلة _ بحسب ياسين _ هي التي رسمت تاريخ صناعة العود بدمشق، وإذا أردنا الإنصاف، فإن مسمى عود دمشقي يعود لآل النحات الذين تميزت أعوادهم بسلاسة القالب الفريد من نوعه والمدروس بشكل مذهل، كما أنهم تميزوا بكونهم نجارين وعاملين في الحفر وتطعيم الخشب بالزخارف، وخطاطين أيضاً.

ياسين
ياسين

يضيف الياسين أن “النحاتين” نشروا الحرفة عالمياً، وأعوادهم موجودة في أغلب المتاحف ليس كأعواد فقط، بل كقطعة فنية دمشقية حملت تاريخ سورية والفن الدمشقي الأصيل، أي أنها ليست موسيقا فقط، بل موزاييك وخط وحفر وتطعيم، وكان واضحاً أن عائلة النحات كانت حريصة جداً على تقديم الفن الدمشقي بأبهى صوره، وساعدهم على ذلك البيئة الحاضنة، كون دمشق هي العاصمة والملتقى.

ويقول الياسين: إلى جانب صانع الأعواد، هناك مجموعة عمل متكاملة استطاعت إنجاح العود الدمشقي: النجار الحرفي الماهر والعامل في الموزاييك الماهر والحفار والصداف والنقاش المهرة.. أي هناك باقة كاملة منسجمة مع بعضها البعض، وانتشار الأعواد السورية لم يكن حكراً على تلك المرحلة فقط، بل هو مستمر حتى اللحظة، والصانع السوري القديم والجديد تميزا بهذه الصناعة، ولهذا أسبابه أيضاً، ومن أهمها توفر الأخشاب المناسبة لصناعة العود؛ مثل الجوز والمشمش والشوح والجوز الشامي.

وعلى عكس المتوقع، يؤكد الياسين أن صناعة العود تطورت كثيراً خلال الأزمة، وظهر صناع جدد شباب ودم جديد وأسماء جديدة استطاعت مواكبة الحداثة والتطور، فالصانع السوري اليوم يستطيع صناعة النموذج السوري والعراقي والمصري والتركي، كما أن الأسعار لدينا مقبولة وفي أعوادنا أصالة وجمال مميزين.

من جهته، يؤكد العازف ومدير فرع إحدى شركات تصنيع العود السوري في الإمارات، حيان النرش، أن الأعواد السورية التي تحمل ميزات العود الشامي مرغوبة جداً في السوق الخليجي ولدى الخليجيين بشكل عام، موضحاً أن العود الشامي يتميز بالرخامة والشجن والصوت الطربي الجميل، وأن هناك مجموعة من الصناع في دمشق وحلب نستطيع أن نقول عن منتجاتهم إنها تحمل النغمة وطبيعة الصوت السورية أو الشامية.

وبحسب خبرة النرش من عمله في تسويق الأعواد ومن ممارسته العزف على العود، فإن الصناع السوريين يختلفون فيما بينهم بطبيعة الأعواد المنتجة، وإن كانت كلها مشتركة بجمالها وصنعتها الممتازة، إلا أن الاختلاف يكون في الصوت، فبعضها يعكس النغمة السورية (الشامية) وبعضها قد يميل إلى العراقي أو التركي، لأن صانعها اتخذ خطاً خاصاً به.

ما سبق يحيلنا مجبرين إلى الملاحظة التالية:

أي مختص أو متابع للموسيقا العربية، يستطيع معرفة جنسية العازف بعد أقل من دقيقة من بداية العزف، فهذا عراقي، وذاك مصري أو تركي أو مغاربي، لأن لهذه البلاد بصمة وطريقة معروفة في العزف وكيفية تناول المقامات الموسيقية، لكنه لا يستطيع تمييز العازف السوري بسبب عدم وجود مدرسة عزف سورية!.

– كيف يتميز بلد في صناعة العود، وفي الوقت ذاته لا يوجد لديه مدرسة عزف عود خاصة به؟

 استخدام قاصر للآلة

أحلنا السؤال إلى عدد من المتخصصين، كان أولهم الموسيقي وعازف العود السوري العالمي نزيه أبو الريش، والذي يصفه الكثيرون بالأفضل على مستوى العالم.

بدأ أبو الريش حديثه بالتأكيد على أنه ليس ضد التنوع، ولا مع التحزب أو التعصب لإقليم معين، موضحاً أنه عزف موسيقا مختلف الحضارات والبلدان واستفاد منها، لكنه في الوقت ذاته مع مشاركة الجميع في التطوير، لذا يجب أن يكون لدينا في سورية مدرسة خاصة.

أبو الريش أرجح عدم وجود مدرسة سورية خاصة للعزف على العود إلى عدد من الأمور، أولها وأقدمها أن بلاد الشام عموماً استخدمت العود كآلة للتلحين ولمرافقة المطربين في الغناء فقط، أي الأسلوب القديم المقتصر على تقسيمات بسيطة قبل الأغنية، وتهيئة المتلقي للمقام الذي سيغني عليه المطرب، مضيفاً بأن الأمر كان في مصر كذلك أيضاً، لكنها تختلف عن سورية وبلاد الشام بأن تعدد الملحنين البارعين فيها؛ مثل السنباطي والقصبجي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، جعل لكل منهم أسلوبه الخاص في العزف وفي ترجمة ألحانه بأسلوب عزفه، أي لا يوجد تقنيات كبيرة في العزف، إنما تميز في الأساليب، لذلك أصبح فيها مدارس.

أما في العراق، فهناك مدرسة مميزة وعازفون كثر بارعون، لكن يبقى منير بشير هو الأميز، لأنه كان منفتحاً على موسيقا كل الثقافات، ولم يكن لديه حدود جغرافية للموسيقا، فرفع من مستوى العود، وأثبت أنه واسع المجال، وأن بإمكانه الغناء وحده، وعزف الكونشيرتو وغيره من الأنماط الموسيقية التي لا يخطر في البال أن بإمكان العود تأديتها.

وعند سؤال أبو الريش عن المدرسة الحلبية، رأى أنها ذاتها المدرسة المصرية، أي المدرسة الملمة بالمقامات والموسيقا الشرقية، لكنها لم تقدم شيئاً مميزاً للعود.

 

ابو الريش
ابو الريش

وكان للتعليم الموسيقي في سورية حصة في كلام الموسيقي أبو الريش، فقال:

لدينا في سورية عازفون ممتازون، ولديهم أسلوبهم الخاص وثقافتهم الموسيقية العالية، لكن وللأسف، يتم تحييدهم، والاستعانة بأساتذة من دول أخرى مثل أذربيجان أو العراق أو غيرها، فيقلد الطلاب عازفي تلك البلدان ويصبحون بارعين في عزف الموسيقى الفارسية أو المصرية أو العراقية، وهذه قضية عالقة في سورية لا بد من حلها، لأن العود هوية عربية، وسورية خاصة.

وختم أبو الريش حديثه بالاعتراض على مفهوم متأصل لدى شريحة واسعة من الناس في مجتمعاتنا، كان وما يزال سبباً في تأخر تطور الموسيقا، ألا وهو اعتبارها أمراً ترفيهياً، وهذا خطأ كبير، لأن الموسيقا هوية، مثل العمارة والآثار، وهي دليل على المكان والزمان وحضارة الشعوب.

التأثير العثماني

الباحث الموسيقي محمد مصطفى رأى أن القضية تتعلق بعدة عوامل وتختلف بين بلد وآخر، ففي مصر، مثلاً، لعب التحرر من الاحتلال العثماني، الذي سبق التحرر السوري، دوراً مهماً، إذ أن احتكاك المصريين بالإنكليز والأوروبيين فتح لهم آفاقاً موسيقية، ومكنهم من الاطلاع على الأساليب والمدارس الأوروبية، هذا – برأي مصطفى –  ولّد نزعة للتحرر من السائد، كذلك ظهور نوابغ الموسيقا المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثل عبده الحمولي والشيخ محمد عثمان، أدى إلى البدء بتحرير الموسيقا المصرية من الموسيقا العثمانية، وبابتكار قوالب خاصة بهم، يضاف إلى ذلك الروح الثورية الموسيقية المصرية التي كانت تدفعهم للانقلاب على بعضهم بالموسيقا، والتي أدت إلى التحرر من أساليب العزف السائدة، وكانت تركية القوالب مثل “البشارف” و”اللونغات”، فابتكر المصريون “الدور” وخرجوا من عباءة الموسيقا العثمانية، بينما في سورية كان الاحتكاك بالعثمانيين فقط، ولم نكن نعرف سوى ثقافتهم وموسيقاهم وكل ما يتعلق بهم، ولم يكن لدينا هذا الأفق التحرري ولا البيئة المساعدة للموسيقيين على ابتكار الجديد، وأكبر دليل هو أن نوابغ الموسيقيين السوريين لم ينتجوا في سورية، بل في أماكن أخرى مثل مصر، لأن جو المنافسة والابتكار هناك أفضل. فريد الأطرش مثال واضح، فهو سوري لكنه يعزف على العود وفق المدرسة المصرية، بل إنه أسهم في بناء الهوية المصرية الفنية، أما في سورية، فنكتفي بالتذوق والمحاكاة والنقل.

هويات متعددة

سبب جوهري آخر يضيفه مصطفى، وهو أن سورية تختلف عن العراق ومصر وتركيا بأنها متشكلة من عدة هويات وليس هوية واحدة، فالمنطقة الشرقية، مثلاً، أميل للعراق تراثياً، والجنوبيون أقرب للبنان وفلسطين، وكل منطقة تحاكي المنطقة الأكبر التي ينتمي إليها فنها موسيقاها، وهذه الحالة المركبة أسهمت بعدم نشوء مدرسة سورية لا في العزف ولا في الغناء حتى.

ولا تتوقف الأسباب عند هذا الحد، بل يرى مصطفى أن من أهمها أيضاً هو أن سورية تاريخياً برعت في الصناعة الفنية بكل المجالات، ومنها صناعة العود، لكن الصناعة الفنية تختلف عن الفن، لأن الفن لا يحتاج فقط إلى الجانب التطبيقي، بل إلى الجانب التنظيري أيضاً، وهذا ما نفتقده في سورية إلى الآن، لذا كنا مكتفين بالأداء غناءً وعزفاً، فنشأت لدينا مهارات بالأداء وليس في الابتكار، وهذا يصب في خانة الفن التطبيقي وليس الجمالي الذي يهدف إلى إنتاج مادة فنية جمالية تصبح موضوعاً للتذوق الأبدي.

ويؤكد وسام الياسين ما ذهب إليه مصطفى، فيقول: إننا، بشكل عام، نستطيع تمييز أسلوب عزف البلدان الأخرى في ثوان، لأنه أسلوب واحد نابع من تراث تلك البلدان التي في كل منها قاسم مشترك هو اللهجة التي لا تختلف إلا بشيء بسيط جداً داخل الجغرافيا الواحدة، أما في سورية فلا يوجد مدرسة لأن كل محافظة هي مدرسة تمتلك تراثاً غنياً واسعاً وذوقاً موسيقياً معيناً، وفقط نحن السوريون نستطيع تمييز هذا الأمر، أي تمييز الألوان السورية، وهذا ما يجعل تشكيل مدرسة عزف سورية واحدة في العود أمراً مستحيلاً.

سيطرة الغناء

سبب غير مباشر لعدم وجود ضوابط لمدارس آلة العود في الوطن العربي بشكل عام وفي سورية بشكل خاص، أضافه الموسيقي والمايسترو نزيه أسعد، ألا وهو سيطرة الغناء على هوية الموسيقا العربية بسبب العمق التاريخي للشعر العربي وانتشاره في معظم الدول العربية، لذلك أصبح نصيب الموسيقا الآلية قليلاً في الاتجاهات الموسيقية العربية.

وفي سورية، سيطرت الموسيقا الفولكلورية على مفاصل هامة في تاريخ الموسيقا السورية، وكان للموشحات والقدود الظهور الواسع والانتشار الأوسع في معظم مناطق الوطن العربي، كل ذلك أضعف من الطرق الموسيقية الخاصة بالعزف على معظم الآلات وبما في ذلك آلة العود.

ويضيف المايسترو أسعد بأن هذه الآلة، وبالرغم من انتشارها ووجود عازفين  وصناع محترفين، إلا أنها لم تأخذ منحى المدارس الموسيقية التي تخص العزف على الآلات المختلفة، لكن لا يمكننا القول إن مدارس العود معدومة في سورية، بل هناك اجتهادات لعازفين سوريين خصصوا للعود طرق تقاسيم وطرق عزف متنوعة اعتماداً على الأغاني الفولكلورية والموشحات والقدود.

اهتمام غير كاف

إلا أن هذه الطرق، كما يرى أسعد، لم تلقَ الاهتمام الكافي لتطويرها وتحويلها إلى هوية خاصة في العزف، ولم تصل إلى شرائح المتدربين والعازفين، مما تسبب بفقر الموسيقا الآلية التي تخص العود، وبالتالي اعتُمِد العود في سورية لمرافقة القوالب الغنائية كالموال والارتجال والأهازيج الشعبية، وبالتالي الأغنيات البسيطة والموشحات، فابتعدت هويته كثيراً عن التكنيك وعن ابتكار لون يعبر عن انتماء آلة العود إلى مكان ما أو مدرسة ما.

ويكرر المايسترو أسعد عدم إنكاره لوجود عازفين متمكنين من هذه الآلة، وأن خير ما قدموه هو المناهج الدقيقة في تعليم آلة العود واستخدام تقنياتها، ولكن تجاربهم افتقرت إلى التعريف بالموسيقا السورية من خلال آلة العود.

المادة السابقة
المقالة القادمة

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة