جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيالعنف على الشّاشة الصّغيرة...مبرّراته ومساوئه

العنف على الشّاشة الصّغيرة…مبرّراته ومساوئه

بشار بطرس

مقدّمة نظريّة

 لقد بحث علماء كثر عن سبب العنف الكامن في البشر، ما يجعلهم أعنف من الحيوانات،
خصوصاً في حروبهم الحديثة ضدّ بعضهم بعضاً،
فأوردوا حججاً مختلفة على ذلك، منها السّبب الاقتصاديّ في احتلال أملاك وأراضي الغير(ماركس)،
والسبّب البيولوجيّ في وجود غريزة عنف لدينا، مثل سائر الحيوانات،
حيث سمّاها “فرويد” بغريزة التّدمير،
حيث أنّ كلّ خليّة حيّة مصيرها الموت، تسعى إليه.ما يعني أنّ العنف موجود في طبعنا،
ولم تستطع حضارتنا التغلّب عليه، لا بل إنّها أبدعت في استحداث أشكال جديدة منه،
حتّى وصل إلى شاشات التلفزيون في مسلسلات يشاهدها الملايين،
بما فيها شاشاتنا خلال الأشهر الحرم، حيث لا حرب ولا دم!!

على المقلب الأخر، هنالك غريزة اجتماعيّة لدى الإنسان، تحرّم القتل،
لأنّ الجماعة بحاجة لأفرادها في مواجهة الطّبيعة والحياة،
بينما تحلّل قتل الأخرين، من أجل استمرار الجماعة نفسها! مع ذلك،
فقد ظلّ القتل، كأحد أشكال العنف المتطرّف، مذموماً،
لدرجة أنّ إحدى النّظريات تقول، بأنّ الحرب لم تصبح دمويّة إلى هذا الحدّ،
إلّا لأنّها أصبحت حرباً عن بعد، بحيث لا يرى القاتل نتيجة فعله،
في حين كان رؤوفاً تجاه خصمه، حين كان يواجهه وجهاً لوجه.

قد نستنتج من ذلك، أنّ العنف الجسديّ(عراك، قتل، صيد…إلخ) هو قانون حيوانيّ،
ورثناه خلال تطوّرنا، وبقي في جيناتنا، يسعفنا للبقاء أحياء حين نصيد،
أو حين نهرب(عنف سلبيّ)، أو حين نقاتل دفاعاً عن أنفسنا، ما يعني أنّنا نقبل العنف شعوريّاً ولا شعوريّاً،
ونتفاعل معه جسديّاً وفكريّاً، وقد نتقمّص شخصيّة العنيف، لأنّها تلاقي شيئاً ما فينا.

العنف في الفنّ

لا يمكننا إطلاق نظريّة عن الفنون العنيفة والفنون الهادئة، لكنّنا نلاحظ ببساطة أنّ العنف على الشّاشة الصّغيرة أشدّ تأثيراً على المتلقّي، من موسيقى عنيفة، قد لا توجد أصلاً، على الرّغم من ضجيجها وقرقعة الأصوات المنكرة فيها(موسيقى الـ”ميتال”)، لذلك نجتزئ الحديث عن العنف في التّلفزيون، لجهة الدّراما فيه.

 

العنف في الدّراما

نريد دراما تصوّر صراع العقول الإنسانيّة، لا تصوير العنف الحيوانيّ

 بسبب المقدّمات الأنفة الذّكر، يبدو العنف الجسديّ أهون أشكال الصّراع(الدّراما)،
لأنّه قريب من الشكل الحيوانيّ الغريزيّ، الّذي لا يتطلب فكراً ثاقباً، يناطح فكراً آخر، ما يعني أنّ العضلات،
أسهل على الاستخدام من استخدام العقل، خصوصاً حين تشتغل الآليّات الهرمونيّة لتوليف الجسم على الهرب،
أو الملاحقة أو العراك أو حتّى القتل، بينما يبقى الدّماغ المنطقيّ السّببيّ ساكناً،
لذلك من السهولة بمكان صنع مشهد مشوّق عنيف من عراك أو مطاردة ـ بما فيه مطاردة السيّارات ـ لأنّ ذلك يلاقي ما فينا من عنف،
على أن نصنع مشهداً تتصارع فيه الأفكار عقلاً إلى عقل.

إنّ اصطفاف المشاهد مع أحد طرفيّ الصّراع في الدّراما،
يجعله متماهياً مع العنف بأحد اتّجاهين:
إمّا لعب دور الضّحيّة، التّي يقع عليها فعل العنف، لأنّ المشاهد ضعيف بالأساس، أو لعب دور الجلّاد، وهو من يمارس العنف.
يتدخّل الموقف الأخلاقيّ للناس من الصّراع،
فالأغلب الأعمّ أنّ الناس ستقف مع شرطيّ يلاحق مجرماً قاتلاً، أو سارقاً….إلخ،
لكنّ النّاس أيضاً، تُعجب بشجاعة ذلك القاتل أو الّلصّ، لما فيه من مواصفات تذكّرنا،
بما نحاول أن ننساه فينا، أو نحبّ ما لا نستطيع فعله بسبب النّواهي الأخلاقيّة.

افلام الويسترن
افلام الويسترن

لقد ساهمت “هوليوود” في تمرير العنف على الشاشة الكبيرة، من خلال أفلامها الأولى،
لأنّها اكتشفت مبكّراً دور العنف في التّشويق الغريزيّ،
فساهمت في تنمية ذائقة العنف عند المشاهدين، ما جعل هذا المرض،
يعبر إلى الشاشة الصّغيرة، بحجّة أنّ النّاس صاروا يشاهدون تلك الأفلام على التّلفزيون،
فما المانع أن تكون مسلسلات التلفزيون عنيفة؟
بغضّ النّظر عن خصوصيّة وحميميّة هذا الجهاز العائليّ،
الّذي تشاهده الأسرة كلّها،
ولا يحترم على الأغلب سنّ المشاهد، فلا يشير إلى العمر الّذي يجب ألّا يشاهد المسلسل.

من أمثلة ذلك ما فعلته أفلام الـ”ويسترن”، حيث فتحت الباب على مصراعيه لتصوير العنف في المجتمع الأميركيّ، واستمرأ المنتجون ذلك،
فتابعوا، حتّى بعد انتهاء مرحلة الـ”كاوبوي”،
بحجّة أنّ المجتمع الأميركيّ عنيف، ومهمّة الفنّ، هي التّعبير عن الواقع.

نأتي الآن إلى حالتنا!

 الحجّة الجاهزة لانتقال العنف إلى شاشتنا، بأنّ المجتمع السّوريّ، صار مجتمعاً عنيفاً، وكأنّ نقل العنف آليّاً من الواقع إلى الشّاشة، هو المبرّر المقنع لما نراه.

أوّلاً: من غير المنطقيّ أن نعمّم فنقول: إنّ المجتمع السّوريّ ـ بسبب الأزمة ـ قد صار عنيفاً بجميع فئاته أو طبقاته وأحداثه، حتّى لو أنّ جرعة العنف قد زادت،
فهذا لا يعني أنّ جميع فتياتنا عاهرات،
وأنّ جميع فتياننا يتعاطون المخدّرات، وأنّ جميع النّاس مرتشون وفاسدون…إلخ؛
إنّ أحد أهداف الفنّ، هو تسليط الضّوء على العيوب، وتضخيمها، لا تعميمها،
لبيان الأثار السّيئة لتلك العيوب،

أحد أهداف الفنّ، هو تسليط الضّوء على العيوب، وتضخيمها، لا تعميمها

والذّهاب إلى أقصى الدّرجات لتصوير تلك الأثار، ما يقنع المشاهد بسوء الظّاهرة السّيئة،
فيتّخذ موقفاً أخلاقيّاً بالابتعاد عنها. هنا يكون الفنّ مثل المجهر،
الّذي يسلّط الضّوء على الخلايا أو الجراثيم الدّخيلة، ليبان للمراقب الطّريقة في استئصالها.

ثانيّاً: إنّ الفنّ منذ زمن، قد تخلّى عن نظريّة الانعكاس الآليّ للواقع،
الّتي نادى بها”جورج لوكاتش” في الرّواية، وطوّر النقاد فيما بعد، النظريّات النقديّة المختلفة،
التّي تشهد، أنّ الفنّ واقع مختلف تماماً عن الواقع المعيش، وله قوانينه الفنيّة الخاصّة فيه،
وأنّ ما نراه في الفنّ، لا يحدث أبداً في الواقع،
بل هو ما يمكن أن يحدث، ويحتمل أن يحدث، ما يعني أنّ الفنّ استشراف للواقع القادم،
من هنا فإنّ تطابق الواقع مع الفنّ المعبِّر عنه،
مسألة لا تتعلّق بالفنّ على الإطلاق، على الرّغم من تعالق المفهومين: الواقع والفنّ.
هل يوجد مثلاً في الطّبيعة مقام البيات الموسيقيّ؟ أم هنالك شخصيّة”راسكولنيكوف” الّذي قتل المرابية في رواية “الجريمة والعقاب” لـ”ديستيوفسكي”؟
لكن ما يوجد فعلاً هو تأثّر النّاس الجميل بمقام البيات، وإحساسهم بما أحسّ به “راسكولنيكوف” من شعور بالذّنب بعد القتل.

العنف في الدراما
العنف في الدراما

ثالثاً: التذرّع بالعنف لخلق التّشويق على الشّاشة، تضرّ فعلاً بالواقع، لجهة اجتزاء حالات فرديّة وتعميمها،
لأنّ الفنّ ـ مثل العلم ـ يتعامل بالكليّات:الحبّ، الكره، الكرامة، العيش الكريم، الحريّة، الفقر…إلخ،
ما يعني أنّ إبراز حالة سيّئة، تدفع المشاهد للتعميم، فيعتقد أنّ العامّ هو الخاصّ،
هنا يقع الفنّ في مطبّ إرسال رسائل غير أخلاقيّة للمتلقّين،
وكم من أطفال حاولوا تقليد أبطال الأفلام الكرتونيّة، ما أدّى إلى مآس كبيرة.

رابعاً: لقد خُلق الفنّ، لأنّ الحقيقة لم تعجب النّاس(هذه مقولة لـ”نيتشة”)، فالحقيقة مرّة و صعبة،
لذك هرب النّاس إلى الفنّ، ليتسلّوا، أو ليستمتعوا، أو ليهذّبوا أنفسهم….إلخ،
وعلى افتراض أنّ الواقع عنيف ومؤلم،
فإنّ على الفنّ أن يخلق مكافئاً فنّيّاً لهذا العنف والألم، باتّجاه طمئنة النّاس، أنّ القيم الإنسانيّة لا زالت بخير،
على الرّغم من الآلام، أرجو ألّا يفهم من كلامي هنا،
أنّ على الفنّ تزوير الحقيقة، لكنّني أقصد أنّ الحقيقة المرّة، بحاجة لفنّ يحلّيها، يجعلها مستساغة،
ينسينا إيّاها، كما قال “نيتشة”.

القتل هو أسهل الحلول الدّراميّة لحلّ المشكلة في موقف دراميّ،
بينما صراع الأفكار، هو محرّك التطوّر،
وقد قال “لينين” يوماً:”قد يكون التّناقض بين فكرين، هو أقرب طريقة لتلاقيهما”.

ما نريده دراما تصوّر صراع العقول الإنسانيّة، لا تصوير العنف الحيوانيّ!
وقد قال “فلوبير” يوماً:”كلّ غريب جميل”، ولم يقل بأنّ العنيف جميل، لأنّ العنف ليس غريباً على النّفس البشريّة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة