جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاتالطريق لـ عبد اللطيف عبد الحميد

الطريق لـ عبد اللطيف عبد الحميد

الرحلة أكثر متعة من المحطة

يحق لعبد اللطيف عبد الحميد أن يفخر بأنه أكثر مخرج  صالح الجمهور السوري على سينما القطاع العام.. فبعد أن أدار الجمهور ظهره لسينما شعر أنها تتعالى عليه وتخاطب سواه، تمكن عبد اللطيف بوصفته السحرية أن يستعيد الجمهور إلى صالات العرض دون أن يخسر جوائز المهرجانات..

وصفته باختصار: حكاية بسيطة بأدوات فنية لاتقصر عن موضوعها ولا تتحول إلى عبء عليه.. لكن يبقى طبق تقديم هذه المكونات يحظى بأهمية بالغة، إنه طبق الرأفة والحنو والحب تجاه شخصياته، بل وأجزم أنها زاوية الرؤية التي تحكم شغله وانشغالاته، فلا يكون أمام المتلقي إلا أن يقابل حبه بحب، حتى لو كانت لديه متطلبات أو ملاحظات تجاه المحبوب.

تنطبق هذه المعادلة من جديد على “الطريق”، آخر أفلام عبد اللطيف، والذي كتبه بالشراكة مع الروائي والشاعر السوري الراحل عادل محمود.

قبل أن ننخرط في سرد وقائع الحكاية من المهم أن نتوقف عند دلالة العنوان بالمعنيين الدلاليين، المجازي والمشهدي.

في المعنى الأول يصح القول إن متعة الرحلة والطريق هي ما يهم، وقد تتفوق بما تحمله من توقعات وإثارة على متعة الوصول إلى المحطة النهائية، وهكذا كان حال فيلمنا.. فتفاصيله أهم وأمتع من نهايته التي أعادت اختزال الحكاية بخطبة في مهرجان جماهيري.. وهو أمر محير فعلا، فما الحكمة من الاختزال المتعسف لعمل فني قائم على جماليات التفاصيل وحميميتها.

فنياً، اختار المخرج زاوية جلوس الطفل صالح أمام منزله، مقابل الطريق ليرصد نماذج وحالات ومشهديات ورطتنا بأن نتلبس معه موقف الراصد، ونشحذ حواسنا لنلتقط أدق الاختلافات ما بين مرور وآخر ومشادة وأخرى واشتباك وآخر.. كما لو أننا عين الكاميرا وقلب الطفل.. حيث تتجمع لدينا في النهاية لوحة موزاييك، عمادها القطع الصغيرة عن قرية تتظاهر بالحياة لكنها تكاد تموت سريريا.. ما يشرح اعتماد المخرج ومعه مدير التصوير باسل سراولجي الثبات النسبي للكاميرا في المشاهد التي تمر أمام المنزل، كما لو أننا نتابع ما يجري من فتحة صندوق الفرجة أو من خلف ثقب الباب، بينما تعبر الحركة من أمامنا وهو ما يشرح الثبات النسبي للكاميرا وحيوية الحركة أمامها.. خيار جعل الشخصيات تعود على أعقابها عندما ينتهي مشهدها ودورها كما في حالة الزوجة التي تصرخ على زوجها وتشتمه، حيث تترك الزوج يكمل طريقه، أما هي فتقف في منتصف الكادر لتختصر معاناتها للمتفرجين وهما الجد وحفيده، ونحن من بعدهما، ثم تعود أدراجها..

الطريق
الطريق

بينما تابعنا رسما مشهدياً مختلفاً خارج هذه الجغرافيا، حيث تصبح حركة الكاميرا، بالتوازي مع حركة الشخصيات، أكثر تركيبا واستعراضا لجماليات المكان.. كما لو أن المخرج أراد أن يقول أن اقتصاده في حركة الكاميرا لم يكن عن عجز في استعراض عضلاته الفنية، بل إخلاص للفن، حيث التوازن والانسجام  لخيار الشكل الفني مع الموضوع. وجمال حكاية “الطريق” في بساطتها.

يبدأ الفيلم مع استلام صالح الجد لرسالة من إدارة مدرسة صالح الحفيد، يعلمونه فيها عن طرد الطفل لغبائه وتعذر تعليمه.. لكن الجد يدّعي أن المدرسة تعتذر عن استقبال الحفيد لأنه عبقري وذكاؤه أعلى من المستوى الذي تستطيع المدرسة أن تقدمه.. ويأخذ الرجل عهدا على نفسه بأن يعلم الطفل المنهاج بأسلوب مختلف بعد أن يغرس في وجدانه أنه متميز وعبقري.. في تبييء لحكاية أديسون الشهيرة.

أولى المهام الموكلة للطفل أن يجلس يوميا أمام المنزل ويدون مشاهداته لنطل من خلال مذكراته على يوميات القرية.. الوادعة البريئة، حتى عندما يشتبك أبناؤها مع جهة مجهولة، لأنك لن تستطيع أن تمنع نفسك من الشفقة عليهم والضحك من جراحهم وهم يتقاتلون دون قضية وبقطيعية يؤكد عليها المخرج في مشهد مواز لفريق آخر يتحرك رجاله وهم يصفقون مهللين، لكن أيضا دون أن يعرفوا سبب تجنيدهم لهذه التظاهرة الاحتفالية.

تمر المرضعة ، الفلاح الذي يطلق ريحا بسبب عملية بواسير فاشلة، الزوجة التي تعير زوجها بخيانته، الشاعر النافر عن بيئته، الجنازة، الهام الحبيبة التي لا تلبث أن تكشف سر الفتى وتعايره.. حالات وشخصيات بسيطة غالبا ما استخدمها كاتبا العمل لتمرير مقولات ورسائل تربوية وحياتية عديدة مباشرة، لكن جمالها أنها لم تكن فظة أو فوقية، بل مرت بانسيابة منسجمة مع طبيعة الفيلم.

تتوزع الرسائل ما بين عامة غلفت الفيلم وحكمت منطقه، وما بين تفصيلية تدفقت عبر الحوارات.. في الأولى سنجد أن الحب مضمخاً بالثقة قادر على اجتراح المعجزات، وإلا لما انتقل صالح من كونه تلميذا فاشلا إلى طبيب ناجح.

في الحكم والرسائل المباشرة  فيتم نثرها عبر الحوارات، كما الحال في درس الرياضيات حين يبدأ الأستاذ بشرح فلسفة المادة فيقول للطالب إن انتقال الرقم من جهة إلى أخرى يغير قيمته، أو كلما ازداد العدد السلبي كلما قلت قيمته، أو أننا نحصل على قيمة إيجابية إن ضربنا السالب بالسالب فلا تيأس من وضعك إن وجدته مزريا… لكن العبرة تنتقل أحيانا من كونها انسيابية إلى التلقين عندما يستفيض الجد في شرح التاريخ ورموز الأساطير.

يتنهي حكايتنا نهاية سعيدة بأن يحقق الحفيد نجاحات متتالية تتوج بدراسة الطب والعودة إلى ضيعته ليدشن بسرعة قياسية مشروعه الطبي، وبالسرعة ذاتها يسامح حبيبة الطفولة ويكملان معا طريقهما الخاص..

استطاع العمل أن يخلص لنوعه ويحافظ على أسلوبيته الناظمة لكل مفرداته.. في الموسيقا، مثلا، آلات خالد رزق محدودة بايقاعات بسيطة مبهجة، إلا عندما بدأت الحياة تصوب أخطاءها وبتنا أقرب إلى النهاية السعيدة.. هنا صارت الموسيقا اوركسترالية ليلعب التوزيع دورا أكبر.

الطريق
الطريق

للملابس نادرا ما اختارت المصممة سهى حيدر النقوش والأنسجة المزهرة بل اعتمدت الألوان الأساسية والسادة.

أما أجمل ما في الديكور ( أدهم مناوي)فكانت قدرته على إيضاح فقر البيئة لكن مع غنى الصورة.. مثال على ذلك منزل الجد الذي علق على حائطه مفردات بسيطة مثل الثوم المجفف وسواه من مجففات وأدوات المطبخ لكن ذلك أضفى حيوية وغنى على المشهد.

روافع كل ما تقدم الممثلون: موفق الأحمد لعب شخصية الجد المثقف بتقنين انفعالي يناسب طبيعتها العقلانية.

تماضر غانم مناسبة فيزيائيا لدور المرضعة، كما لو أن سمنتها كرست الانطباع عن خلو ذهنها من المشاغل والهموم الكبيرة، فكانت بالفعل حضناً يحتوي الحفيد جسديا وتفيض عليه حنانا بتعابير وجهها الدافئة والحميمة.

ماجد عيسى، رباب مرهج، مأمون الخطيب، أحمد كنعان، مجد شما.. كلهم في مواقعهم .. صحيح أنهم أجادوا لكنهم لم يفاجئوا، لأننا اعتدنا منهم الاتقان والإجادة، على خلاف الشاب غيث ضاهر بدور صالح الحفيد وقد تأرجح بالأداء، مثل إبرة ميزان الصائغ، مابين البلادة والبلاهة ومابين الحساسية والنباهة..

لم تقل عنه اتقانا رند عباس بدور إلهام الطفلة، وقد اشتغلت دورها ببراءة اختلطت بأنثوية وكيدية محيرة أنقذت الشخصية من الإدانة

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة