بشار بطرس
السينما والرواية: ماذا يُضاف.. ماذا يضيع على الطريق؟
“حجر الصبر” نموذجاً
التعالق الأجناسي، ربما تضايف الأجناس الفنية؛ طريقة استفادة الفنون البصرية (سينما، تلفزيون، فن تشكيلي) من فنون السرديات الكبرى والصغرى (مسرح، رواية، قصة).
للدخول في علاقة الفيلم بالرواية المأخوذ عنها، لا بد من المقارنة بين العملين الفنيين في ثلاثيتهما:
مبدع، رسالة، متلق.
1 ــ المبدع
ــ في الرواية: هو شخص واحد، لعمل فردي بامتياز.
ــ في الفيلم: عمل جماعي لمجموع العاملين فيه، بقيادة المخرج الذي يسأل عن كل شيء، لكنه لا يتحمل هفوات الفيلم كلها، فهنالك حرية نسبية لمجموع العاملين. لكن ما يميز الفيلم الناجح هو التطابق النسبي العام لرؤى العاملين فيه.
2 ــ الرسالة
ــ في الرواية: هي كتاب بكلمات سوداء على ورق أبيض أو أصفر (فقر لوني واضح)؛ بحجم كبير (حتى آلاف الصفحات)،
تحتوي على تقنيات الرواية من وصف وحوار، وحوار داخلي، وحبكة، تجري في زمان ومكان، وشخصيات.
ـــ في الفيلم: منتج بصري، يسبقه إعلان ضخم، ناتج صناعي مربح إذا كان جيدا، تتآزر فيه مجموعة من الفنون، فيتكئ على أحدها (الموسيقى التصويرية مثلا التي تنقص الرواية) ليكون ناجحا، بينما يخفق في عنصر آخر (الإضاءة مثلا)؛ يعتمد على شهية مفتوحة للعين البشرية المشاهدة، لأنها أوسع نافذة للإنسان لاكتشاف العالم؛ يمثل فيه أدوار الشخصيات ممثلون مشهورون،
ما يدفع الفيلم للنجاح، حتى لو أخفق في مكوناته الأخرى،
بسبب حب الناس لتلك الشخصيات (ما لا يتوفر للرواية)،
فيصبح الممثل متماهيا في شخصيته، حتى ليعتقد المشاهد، أنه شرير فعلا، أو أنه زير نساء.. إلخ،
يساعد في ذلك شكل الممثل نفسه، ما تعجز عنه الرواية، حتى في أشد تفاصيل وصفها للشخصيات.
بينما يترك البطل في الرواية، لخيال القراء، الذين يشبهونه بأنفسهم أو بأقربائهم.
ــ يعتمد الفيلم (غالبا) على تقنية الحوار، بينما تعتمد الرواية على الحوار والوصف الداخلي للشخصية والحفر بها، متأثرة ومؤثرة في الحبكة،
ما يجعل أبطالها يشبهون البشر الحقيقيين،
ما يعجز الفيلم عن القيام به، إن جملة من مثل: شعر جمال بالإثم، تستطيع رواية ما الإبحار فيها، وصولا إلى البحث في الخطيئة الأصلية،
بينما لا تستطيع الكاميرا، مهما كانت مهارة مخرجها، أن تصور ذلك الإحساس، ومهما كان الممثل (جمال) عبقريا بالتمثيل.
ــ يفوت الفيلم تقنية الوصف التي تختال الرواية بها، لتعطي قارئها جوا كاملا من التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل؛
إن مشهدا طويلا بدون فعل، يبدو مملا في السينما؛ أما بالنسبة للحوارات الداخلية للشخصية مع نفسها،
فهي مملة في الأفلام، بينما تنجح الرواية بذلك، حافرة في نفسية أبطالها.
ـــ للرواية المسرودة بصيغة ضمير المتكلم “أنا” قوة ومصداقية في إقناع القارئ، بأن الرواية قد حدثت فعلا مع أبطالها، بينما يستعيض الفيلم عن ذلك بتصديق تمثيل الممثل، الذي يتقمص الشخصية.
ـــ تبقى الحبكة أهم ما “يسرقه” الفيلم من الرواية، وأهم ما يعتمد عليه لصنع مزيد من التشويق؛ فقد فهم صناع الأفلام ذلك، فاعتمدوا على روايات أثبتت شعبيتها وشهرتها، لعمل أفلام، يعتقدون سلفا بنجاحها؛ هنا الفيلم مدين للرواية بذلك.
ــــ أما ما يتعلق بتقنية التقطيع، فهو موجود في السرد، لكن بتقنيات أوسع من القطع السينمائي، ما يتيح تداخل الأزمنة والأمكنة في فصل روائي واحد، بينما المشهد هو الوحدة الأساسية للفيلم، والقطع من لقطة إلى لقطة، أو من مشهد لآخر محكوم بشرطي الزمان والمكان.
ـــ الإضاءة في الفيلم عنصر إجباري، بينما يستطيع الروائي بوصفه إضاءة المكان، الذي تجري فيه الأحداث، أن يعطي عمقا نفسيا للقارئ: إن الكتابة عن الضوء تثير الخيال، ربما أكثر من مشهد بإضاءة مدروسة، تمر عليه العين بجزء من الثانية.
ـــ مما ينقص الرواية ولا تستطيعه، الخلفيات الموسيقية، التي تساعد على استدرار عواطف المشاهد، فهو يسمعها، فتؤازر العمل البصري، في الفيلم.
3 ــ المتلقي
لا يوجد إبداع بدون متلق؛ المتلقي هو أهم جزء في العملية الإبداعية، وبسبب ذلك سأضيف إلى هذا البعد، ما يتعلق بالفيلم حصرا، وهو زمن التلقي، وأسلوب التلقي.
ـــ في الفيلم: لأسلوب التلقي طقس لا يتوفر للرواية، فزيارة السينما، وحضور فيلم بمشاركة الجميع، في صالة معتمة،
شرطان لا يتوفران للرواية، التي تقرأ بطقوس قارئها، لكن ليس بمشاركة الجميع.
إن غريزة القطيع، تسود في صالة السينما، حيث يضحك الناس على مشهد ما مجتمعين،
أشد مما يضحكون منفردين على المشهد نفسه، إذا كان المشهد كوميديا، ويبكون أكثر للسبب المعاكس.
هذا من حظ الفيلم، مع أن مشاهدي الأفلام انفراديا ليسوا بالقلائل؛
إن مشاهدة الشاشة البيضاء على كرسي مريح، تفوت على قارئ الرواية إحساسا بالانفعال الجماعي، بينما قراءة الرواية، تعطي شعورا بالتوحد مع ما نقرأ، وهذا ميزة لها.
ـــ زمن التلقي: هو قسري في الفيلم، بالنسبة لزائر السينما، لا يستطيع المشاهد إيقاف العرض،
لذلك فهو مجبر على التلقي في حدود مدة الفيلم نفسها، وأقصى ما يمكنه فعله، أن ينصرف!.
زمن عرض الفيلم، لا يتيح التمحيص والتدقيق في تفاصيل مشاهده، ولا إعادة مشهد ما؛ بينما تتيح الرواية، التوقف، والإعادة، وتأجيل القراءة..
زمن التلقي في الرواية متروك للقارئ، وغالبا ما يفرضه تشويق الرواية، فيسرع القارئ القراءة لاهثا وراء نهاية الحبكة، ويبطئها، حيث يستمتع بسرد وصفي ما، ومع ذلك فإن خيانة ما، يرتكبها الفيلم بحق الرواية التي أخذ عنها، حين تصبح المئة دقيقة، التي هي مدة عرضه في المتوسط،
عبارة عن عشر ساعات من القراءة الممتعة للرواية، التي أخذ عنها!! فأين ذهب باقي الوقت؟؟
ـــ فيزيولوجيا المتلقي: أجري تحليل كهربائي على دماغي قارئ الرواية ومشاهد السينما أو التلفزيون، فكانت النتيجة:
دماغ قارئ الرواية في أشد حالاته تهيجا وعملا، بينما دماغ مشاهد السينما كدماغ النائم.
تقدم الكاميرا وجبة شهية جاهزة بدون عناء لمشاهديها، لكن وعلى الرغم من الفقر البصري لسطور بكلمات سود على صفحة بيضاء،
إلا أن المتلقي في الرواية، يشم رائحة الكمون في مطبخ “سميرة”، ما لا تستطيعه الكاميرا، حتى بلقطة قريبة على قطرميز الكمون.
الرواية أقدر على إثارة الخيال بقدرتها على سرد التفاصيل، التي يهملها الفيلم.
“حجر الصبر”.. نصاً وفيلماً
“حجر الصبر” رواية لـ عتيق رحيمي، في مئة صفحة من القطع المتوسط.
“حجر الصبر” فيلم من إخراج عتيق رحيمي في مئة دقيقة.
من النادر أن يتصدى روائي لإخراج فيلم مأخوذ عن روايته نفسها، ومن النادر أن يكون زمن التلقي (مشاهدة الفيلم وقراءة الرواية) هو نفسه، ما يحيل إلى التزام المخرج – الروائي بالجو العام لروايته، حين نقلها إلى فيلم.
ومع ذلك، فقد استعان الروائي – المخرج بكاتب سيناريو، ليستفيد من خبرته في تحويل الرواية إلى فيلم، على ألا تتم خيانة الرواية!
في الفيلم: قلل المخرج من البهرجة البصرية، التي تأتي – غالبا – من خارج سياق السرد، لتشد المشاهد في فيلم، لا تتنوع فيه أماكن التصوير (كما الرواية)؛ وعمل على ما يشبه مطابقة أداء الشخصيات في الفيلم لأدائها في الرواية، بحيث لا يبالغ ممثل ما بدوره، فيسرق من المخرج إرادته الحازمة في الكشف عن جوانيات الشخصية، ومع ذلك، فقد وسع في شخصية العمة، للتنويع في الفرجة البصرية في المشاهد، التي تجري في بيتها، ما يبعد احتمال إملال المشاهد.
إن توازي زمن التلقي مع مدة الفيلم، يعني أن المخرج لم يحذف – لصالح الفيلم – على حساب الرواية، شخصيات وأحداثا تؤثر على بنيتها (قبل بنية الفيلم)، ومع أنه توسع في شخصية العمة، لكن بالاتجاه الشاقولي، ما يجعلها أعمق، في بيت يثير خيال المشاهد بأسئلة عن شبهته.
جاءت الشخصيات مشابهة في الفيلم لما هي عليه في الرواية، ولم يسمح المخرج للبطلة المشهورة، أن تسرق بجمالها الجو العام، مع أنها تعرت في الفيلم لخدمة الدراما فيه، ولم تفعل ذلك في الرواية (طالما أن ذلك العري لم يقصد به المجانية)، لكنه زاد في الفيلم من شعورها بذنبها، إذ خانت زوجها.
استفاد الفيلم من إمكانية الكاميرا في مشاهد معينة لرسم الظلال والحركة وتوظيفها في المشاهد الرومنسية، حين تلتقي البطلة بعشيقها الجندي، فنرى ما فعلت الملاءات البيضاء عند مجيئه، وممارسته الحب معها، مع أن ذلك كان جميلا لو كتب على الورق، خصوصا أن الراوي يستخدم لوحات أقل جمالا في السرد (سقوط حبات المسبحة لخلق إيقاع ما) ولم يستخدمها في الفيلم، على الرغم مما كانت ستضفيه من إيقاع في الفيلم.
لم يكثر المخرج من الحوارات في الفيلم، مع أنها من نقاط قوته، وبقي أمينا للحوار في روايته (هو من نقاط قوتها أيضا)، لأنه أدرك أن ممثلة تحاور نفسها، وتحاور زوجا ميتا سريريا، لا بد أن يجلب الملل للمشاهدين (حوار من طرف واحد مع ممثل غير قادر على رد الفعل).
ظهر البطل مشخصا ذا وجود أعمق من وجوده في الرواية، فالروايه لم تعره اهتماما، إلا في الحديث عنه من قبل زوجته (بحكم وضعه الطبي)، لكنه ما إن ظهر في الفيلم، فقد صار لصورته، على الرغم من سكونيتها، حيز أكبر لوجود شخصيته، فلم يكن كالدمية، وهذا يسجل للممثل، الذي مثل دورا ليس من السهل نقله حركيا، كأنه غير موجود، لكنه موجود!!.
لقد أوحى الفيلم للمشاهد، بردة فعل ما للزوج على بوح زوجته، فلم يكسر الفيلم أفق التوقع، بينما لم توح الرواية بمثل ذاك الرد، وهذا لصالح الرواية (على الرغم من موت الممثل سريريا، لكن المشاهد سيتوقع منه شيئا ما، وقد حصل)!
يخرج مشاهد الفيلم وقارئ الرواية بانطباع نادر عن تواشج جوي العملين، إذ لم يبالغ الفيلم في التعدي على تقنيات السرد (الفرجة لم تغلب الخيال، أو لم تحد منه)، كذلك فإن الخيال المنطلق عند قراءة الرواية، لم يأسر إمكانيات الكاميرا بإضافة الجميل إليه.
الغريب أن يكون للرواية والفيلم بصمة واحدة!.