جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالاتالسينما المستقلة في مصر ..هل هي مستقلة حقاً؟

السينما المستقلة في مصر ..هل هي مستقلة حقاً؟

محمد الروبي

السينما المستقلة في مصر ..هل هي مستقلة حقاً؟

في البدء كان الخلاف
فمع بدايات ظهور مصطلح “السينما المستقلة” في مصر، دب خلاف كبير بين أطراف عدة، من بينها صناع هذه الأفلام وكذلك النقاد المتابعون للتجارب السينمائية الجديدة، بل وأيضا شركات إنتاج وتوزيع الأفلام. وقد انصب الخلاف أساسا على محاولات تعريف المصطلح بل وقبوله. فالبعض رأى أنه مصطلح غير واقعي، بمعنى أنه لا يعبر عن حقيقة هذه الأفلام. وتساءل هذا البعض عن المقصود بوصف “مستقل”، ومستقل عن ماذا؟ وهل يمكن اعتبار القياس المادي (قليل أو كثير) وشركات الإنتاج (صغيرة أو ضخمة) مقياسا وحيدا للحكم على الفيلم (مستقل أو تابع)؟

مرت سنوات طويلة منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، وما يزال الحال هو عدم الحسم. ومع ذلك ظل المصطلح
يتردد دون تحديد أو تعريف جامع مانع له.
أنا شخصيا اندهشت كثيرا حين سمعت بالمصطلح أول مرة. وتساءلت مع المتسائلين: “مستقل عن ماذا؟”، فجميعنا يعرف أن المصطلح انطلق من السينما الأميركية تلك التي تمتلك شركات كبرى تحتكر العمل السينمائي ولا يكاد فرد واحد يستطيع أن يصنع فيلما إلا عبرها. حتى جاء من غامر وتحدى وخرج عن هيمنة حيتان هوليوود. وحينها أطلقوا على هذه التجارب وصف
“المستقل”.

ولكن هل الأمر نفسه حدث في مصر؟ هل تمتلك مصر تلك الشركات الهائلة المحتكرة التي يتحول صانع الأفلام فيها إلى مجرد ترس صغير في آلاتها الضخمة؟
المؤكد أن لا. فالشركات في مصر ومن ثم الصناعة السينمائية لا تتعدى كونها ممولاً يملك مالاً، يؤجر استوديو يتفق مع نجوم.
ولا سبيل إلى ذلك الاحتكار المهيمن الذي تمثله الشركات الهوليودية. فلماذا إذن أصر صناع هذه الأفلام على أن يطلقوا عليها
وصف “مستقلة”؟ ولماذا لا نسميها مثلا “سينما بديلة”؟. لكنني اكتشفت أيضا أن لفظ البديل سيحصرها فقط في كونها
“بديلا” عن السينما التجارية، تلك التي تعتمد على النجم سعيا وراء ربح سريع عبر موضوع بسيط ـ تافه في الأغلب ـ
وتزخر بإفيهات لفظية يسمونها كوميديا! فماذا عن سينما داود عبد السيد، ومحمد خان وغيرهما من الجادين الذين كانوا وما
يزالون يصنعون أفلامهم؟.

مع فشل هذا الوصف، أو لنقل عدم حسمه، ذهبت إلى وصف آخر وهو سينما “تجريبية”. لكنني اصطدمت بأن ليست جميع هذه الأفلام تصلح لينطبق عليها هذا الوصف، فبعضها، بل الغالب منها يدور في فلك الواقعية موضوعا وشكلا. إذن لنسمها “سينما شبابية” باعتبار أن أغلب صناعها من الشباب. لكنني سأصطدم مرة أخرى بسؤال: “ما معيار الشباب؟” هل هو السن فقط؟ إذن ماذا عن محمد خان الذي صور فيلمه “كليفتي” كاملا عبر كاميرا ديجتال في عام 2004، و كان من أوائل من غامروا باستخدامها. وكذلك اعتمد على ممثلين غير معروفين، أو لنقل لم يكونوا بعد نجوما، وعلى رأسهم بطله باسم سمرة؟

ظل السؤال يطاردني وظللت أرفض الوصف لسنوات طوال. لكن أيضا وفي المقابل ظل المصطلح يتأكد عبر كتابات زملاء من النقاد ومن قبلهم صناع الأفلام. هنا رضخت للمصطلح، خاصة بعد أن قرأت للزميل العزيز الناقد عصام زكريا مقالا عنونه بعنوان ساخر وهو “سينما اسمها محمود”، وفيه سعى زكريا للتأكيد على ضرورة أن نكف عن هذا الخلاف وليكن اسمها ما يكون حتى ولو كان “محمود”.

هنا كففت أنا عن إعلان رفضي للمصطلح ومارست متابعتي لهذه الأفلام التي يصنعها شباب بقروش قليلة باعتبارها “سينما” وفقط. والآن فلأكف عن اجترار بحثي عن وصف لهذه الأفلام، ولنقرأ معا نموذجا منها لعلنا نكتشف معا إن كانت هذه السينما مستقلة حقا أم أنها تجريبية أو شبابية أو.. محمود.

“عين شمس”: استقلال أم تحايل؟

“عين شمس” هو الفيلم الروائي الطويل الثاني لمخرجه إبراهيم البطوط، أخرجه عام 2008 وكان قد سبق وأن قدم أول
أفلامه الروائية “إيثاكي” عام 2004.
وقد أثار “عين شمس” جدلاً واسعاً حول تعنت الرقابة في منع عرضه عرضا عاماً، بحجج أقل ما توصف به أنها متخلفة وتنتمي إلي تلك العقليات البيروقراطية التي لا ترى في الإبداع إلا ما يتيح لها فرصة استئصال أطرافه أو محاولة إطالتها، على طريقة قاطع الطريق في الأسطورة اليونانية الشهيرة.

في البداية لابد من الإشارة إلى أن “عين شمس” هو كأي إبداع سينمائي حقيقي، يصعب اختصاره في سرد كتابي لا يتعدى
الـ “حدوتة”. فالصورة والموسيقى والتقطيع لحركة الكاميرا والتوليف السينمائي لشريط الفيلم، هي عناصر أساسية لا يمكن تجاهلها أو تجنبها لاستخلاص “حكاية” يمكن سردها وفقاً للأعراف التقليدية للحكايات (بداية، ووسط، ونهاية). وهنا سنضطر للعودة في عجالة إلى مشكلة الفيلم مع الرقابة.. فمن شاهد الفيلم ومن سيشاهده في المستقبل، سيؤكد صدق إبراهيم البطوط الذي صرح في مواجهة الرقابة أنه لم يكن لديه سيناريو متكامل للفيلم بالمعنى التقليدي لكلمة سيناريو.. وإنما هي فكرة تبنى علي موقف من الحياة، تثمر في البداية شخصية ما، ثم شخصيات، تتجادل فيما بينها للتعبير عن هذه الفكرة، وتتطور الشخصيات، وبالتالي الفكرة، كلما تقدمت الخطوات العملية في تنفيذ الفيلم.

والآن.. لنسأل أنفسنا والمبدع إبراهيم البطوط: هل هي طريقة جديدة في الكتابة السينمائية؟. والإجابة الموضوعية تقول (لا)..
ليست جديدة بقدر ما هي مختلفة عن السائد المعتاد في سياق تاريخ السينما المصرية والعربية بشكل عام. ويمكن لها أن تكون
ــ ويقيني أنها ستكون ــ بداية لطريق جديد في صنع أفلام سينمائية تتجاوز ما هو سائد وتهيل التراب على جثة سينما باتت
رائحتها تزكم الأنوف.

“طريقة ليست بالجديدة” نقصد بها أن تجارب عالمية كثيرة، ومنذ سنوات طويلة جداً، اعتمدت هذه الطريقة، التي يمكن تلخيصها في عبارة “هدم الجدار الوهمي بين النوعين التسجيلي والروائي”.. ولنا في التاريخ مثال الواقعية الايطالية الجديدة، كما لنا في سبعينيات القرن الماضي مثال ألماني شديد الوضوح هو العظيم “فاسبندر” الذي كان يعمل بطريقة “الورشة” أو “المختبر” والذي اعتمد في معظم أعماله على الهواة من الممثلين، واستخدام الأماكن الحقيقية لتصوير أحداثه السينمائية، بل كان هو من أوائل من استخدموا التصوير التليفزيوني قبل أن نعرف هذا الجديد المسمى “ديجيتال”.

إذن تجربة إبراهيم البطوط، ليست بدعة سينمائية بالمعنى المجَّرم لـ “البدع”.. لكنها طريقة جربت من قبل.

لكن القوانين الرقابية العتيقة تصر على أن يكون هناك سيناريو مكتوب يقدم لها قبل صنع الفيلم. واقترح الناقد الكبير على أبوشادي ( رئيس مؤسسة الرقابة آنذاك ) المتعاطف مع الفيلم، أن يتم عرضه باعتباره فيلما أجنبيا، وهو ما رفضه المخرج.
وأخيرا تم الاتفاق على تفريغ سيناريو الفيلم من الشريط وتقديمه مكتوبا للرقابة ليأخذ عليه موافقتها ومن بعدها الموافقة علىالشريط والتصريح بالعرض العام.

إبراهيم البطوط
إبراهيم البطوط

وبالفعل عرض الفيلم عرضا عاما بعد أن منت عليه إحدى الشركات بعرضه.

إلى هنا كان يفترض أن تكون مشكلة الفيلم قد انتهت. لكن للأسف هذا ما لم يحدث، فالشركة العارضة وضعته في سينمات
على أطراف المدينة وبسعر تذكرة مبالغ فيه وبلا دعاية على الإطلاق. فكان من الطبيعي أن يسحب الفيلم من دور العرض بعد
أسبوع واحد لأنه لم يحقق الحد الأدنى من عائد التذاكر المحدد بقانون، هو سيف آخر مسلط على رقاب المبدعين.

ابراهيم البطوط في “عين شمس” مجرد مثال لعشرات من الذين واجهوا، وما زالوا يواجهون، هذا التعنت الرقابي الذي إن
تجاوزوه اصطدموا بحائط أشد قسوة وصلادة وهو احتكار شركات الإنتاج لدور العرض. وهو ما جعلهم يلجأون مؤخرا
للمنصات التي سيفاجؤون بأنها أيضا لها شروطها الخاصة. شروط تخص الموضوعات التي تقبلها والأفكار التي تسعى
لنشرها.

والآن هل ما زلنا نصر على تسمية هذه الأفلام – الجيدة – بالمستقلة؟

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة