جوى للانتاج الفني
الرئيسيةفي الصالات«الرحلة 404».. عندما تمتلك الصدفة شيئاً من الحكمة

«الرحلة 404».. عندما تمتلك الصدفة شيئاً من الحكمة

ناهد صلاح

لماذا تحمل الصدفة هذا الكم من الحقيقة؟
كأنها تختزل ما حدث في العمر بضربة واحدة محكمة وسديدة،
تسجل ما فات بصورة سريعة دون مدارة أو خجل..
هل تمتلك الصدفة شيئا من الحكمة والحصافة؟
وهل هذا أمر من المفترض أن يعنينا كجمهور،
أم من الحماقة والرعونة أن نسأل عما وراء الصدفة ونفوت على أنفسنا فرصة الاستمتاع بفيلم مثل «الرحلة 404»؟
.. الفيلم الذي عرض في مصر تحت لافتة للكبار فقط (+ 18)،
واستقر على هذا الاسم بعد مناوشات رقابية اعترضت على عنوانه الأول «القاهرة ـــ مكة» وعارضت بعض تفاصيله التي تغيرت في النسخة الجديدة،
لعل الأمر يعتريه نوع من الحصافة والذكاء امتلكته جهة الإنتاج: محمد حفظي، شاهيناز العقاد، لكنه يظل الفيلم المثير للجدل والإعجاب في ذات الوقت،
كما يؤكد الحضور المتوقد لمخرجه هاني خليفة،
فبالرغم من قلة أفلامه لديه هذه المساهمة بتحسين الوعي المعرفي والجمالي والبصري،
وكذلك يكون المؤلف محمد رجاء كاتبا يرتكز مشروعه على طرح موضوعات تحرض على نقاش،
وتكشف المخفي أو الممنوع بمخيلة مشبعة بالتفكير والسجال،
تزلزل مفاهيم سائدة، أو على الأقل تحث على قراءتها مجددا، وتدفع إلى إعادة النظر في مسائل كثيرة،
وتنبه المشاهد المهتم إلى ذاته وعقله ومشاعره،
فضلا عن ممثلة تجتهد في سبيل تطوير بنيتها التمثيلية، منى زكي التي بمجرد أن تظهر تنعقد المناظرات والمجادلات، هذه ليست مبالغة إنما تكثيف لحالتها كممثلة تفطن إلى اختياراتها في الأعوام الأخيرة دون أن تعرقلها متاريس الهجوم أو الاستنكار،
وتستطيع إظهار براعتها، الحماسة تدفعها إلى هذه البراعة وتجعلها متألقة ومتحررة، غير متعبة مثل نظرائها المحترفين،
إنما سلسة لا تتصنع أداء، لا تبالغ في سلوك، تحافظ على هدوئها بشكل مدهش،
ويعينها هذا الانسجام الواضح بينها وبين رفاقها من الممثلين الذين تجمعهم اهتمامات فنية مشتركة وقدرة على التقاط نبض الشخصيات التي يجسدونها وحالاتها وانفعالاتها في واقعها: محمد ممدوح، محمد فراج، شيرين رضا، خالد الصاوي، عارفة عبد الرسول، حسن العدل وغيرهم.

رحلة-404
رحلة-404

الصدفة إذن موجودة في دراما الفيلم وليست في مقومات وطريقة صنعه،
بهذه النتيجة يمكننا أن نتوقف عند فيلم قد يعد استثنائيا في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها صناعة الأفلام في مصر، لأنه يتلمس طريقا مغايرا غير الطرق المتاحة،
وإن بدا قاسيا أحياناـ لكن هذا أمر يتعلق بطبيعة القصة التي اتخذت منحى ميتافيزيقيا،
فالبطلة تبحث في أعماقها عن الخلاص الروحي والصفح من قبل الله،
بينما الواقع عاص، فظ، شكس، وهو ما عبر عنه إيقاع الفيلم بتمهل في البداية،
ما لبث أن تخلى عن هدوئه في تصاعد درامي متجل بتفاصيله وتصوير فضاءاته المفتوحة على قهر،
يعبر عنه من خلال بطلته بملامحها التي توهم الناظر إليها بأنها غير خاضعة لأنماط مختلفة من التسلط والتألم والخيبة وانسداد أفق العيش،
ثم نجدها في متاهة الانغلاق في بؤر غير مفتوحة على أي خلاص.

 غادة السعيد امرأة لها ماض أسود تقرر مسارا جديدا لرحلتها في الحياة،
لكن الاحتياج يجبرها على التوقف أمام الباب الغامض،
يختار لها الطريق مقابل تغيير حكايتها والمشي في طريق مهجور،
هنا تصبح الحكاية هي الحياة الأخرى، لهذه الشاردة المارة في صحراء غريبة،
تترك خلفها العديد من التفاصيل والعقد الدرامية الغامضة..
الحكاية تمنحها موقعا مختلفا، وتجعلنا نحن المشاهدين نتعلق بها ونتماهى معها،
تشتد خيوط الحكاية أكثر وتدفعها إلى مسارات مختلفة،
لكن هناك هذا الخيط الرفيع المرفوع إلى أسقف متهالكة،
والمشدود لأطراف منسية في الحكاية كلها، قبل أيام من سفرها إلى (مكة) لأداء فريضة الحج ينقلب مشوارها إلى الوراء، فتصبح رحلتها الجديدة هي الدوامة التي تعيدها لهذا الماضي الفوضوي وتفتح نافذة على حياة هذه السيدة وتفصح في تصاعد درامي قوي عن تفكك عائلتها وعلاقتها المضطربة بوالديها.

 الحالة الكاشفة في الفيلم لا تقدم مغامرة تخوضها امرأة بين حاضرها وماضيها الغامض،
ومحاولاتها التملص من دنس الماضي وتطهير راهنها ومستقبلها والسعي إلى التوبة والغفران،
وإن كان هذا معلما رئيسيا في الموضوع الدرامي،
لكنها في خط مواز تجسد فكرة النزاع بين الخير والشر،
وتبيان الصراع الوجودي والسؤال الأزلي لماذا أنا هنا في هذه المساحة بالذات؟
التنازع بين الإنسان ونفسه وضميره، خصوصا عندما يوضع أمام اختيارات هي في حد ذاتها اختبارات لقوته وصموده وثباته.

رحلة-404
رحلة-404

«أنا رايحة أحج.. بس مش ثابتة» قد تعبر هذه الجملة التي وردت على لسان «غادة» عن عراكها الوجودي واضطرابها الديني،
تولي وجهها شطر «مكة» من أجل الحج والإفلات من حياتها الملطخة في «القاهرة»، تريد الانعتاق من ذنوبها القديمة والحديثة،
طالبة الجامعة التي فقدت عذريتها وتحولت إلى واحدة من فتيات الهوى، تبغى الاغتسال والتطهر،
فما مضى من أيامها كان ثقيلا بدرجة كبيرة تفوق تحمل روحها وجسدها،
وهي محاصرة بواقع غليظ ونفس حائرة بين الغواية والخلاص.

  الموضوع يبدو فلسفيا،
لكنه يخرج من رحم مجتمع يرزح تحت بؤسه وخيباته التي طالت المرأة في مقتبل عمرها،
الآن هي تقاوم إحباطها وإنهزامها القديم واستسلامها السابق للأمر الواقع كما لو كانت تعاقب نفسها الضعيفة المتراخية من قبل،
والموضوع سبق أن تناولته السينما المصرية بتنويعات مختلفة بين ظواهر الاغتصاب والعجز الجنسي وغيرها،
وإبراز مساحات تناقض عميقة لا يفسرها إلا ما بين السطور أو المعنى الكامن في بطن الشاعر كما قال النقاد القدامى،
وفي حقيقة الأمر أن هذه الظواهر هي أوجه متبادلة لعملة واحدة تتلخص في بعدها العام في كونها أزمة مجتمع يعاني من تقلصات ما تحت حزام الفقر،
في الوقت الذي يؤكد فيه الواقع على إتساع مساحة التناقض بين كل شيء: التطرف والاستسلام، ثقافة التحرر الوطني وثقافة السلام، الغنى الفاحش والفقر المدقع، وبالتالي الإنحراف الجنسي بكل مايصاحبه من ظواهر الشذوذ والاغتصاب وأحيانا الجنس الجماعي،
وعلى النقيض الإحباط والعجز الجنسي..
لكن هنا في هذا الفيلم نضيف أنه يصنع حالته الخاصة،
ربما يرى البعض أنه يتوغل بنا في متاهة المقارنة النمطية بين المقدس والمدنس، البريء والشيطان،
وما تثيره من تداعيات نفسية وإنسانية،
لكنه في حقيقة الأمر لا يصنع نوعا من التراجيديا المكررة،
بل يخوض في ممرات مجهولة في النفس الإنسانية،
تقودنا إلى نوع من الشفافية في معرفة حياتنا الثقيلة،
وربما تجعلنا نستوعب الجملة العنيفة التي وردت على لسان الأب )حسن العدل( حين قال: «الإنسان ده رمّة»، بالرغم من قسوتها ولكنها تشير إلى مساحات الظلمة في النفس الإنسانية التي تطبعت بواقع لئيم، خشن، سمج.

 السلوك نابع من الواقع،
وهذا ما أدركته منى زكي مجسدة أقصى لحظات الضعف والقوة في ثبات،
من خلال سيناريو وحوار هو نوع من المكاشفة وليس التجريح،
وهذا هو ما لعب عليه الفيلم وفق تكنيك تتجلى فيه فطنة محمد رجاء ورغبة هاني خليفة في البوح والتوغل في مساحات اجتماعية غير ممسوسة بعمق وبإيقاع مضبوط بمساعدة مونتاج محمد عيد،
إضافة إلى موسيقى الأردنية سعاد بوشناق التي توازت مع النص الدرامي دون أن تتعالى عليه.

 لا ادّعاءات ولا تصنع ولا مكابرة، الاندماج في الواقع بخيال صادق كان ملمحا أساسيا،
ثمة بساطة تحتمل ولا تسطح الفكرة، بل توغل السيناريو في هوامش أتصور أنها حفزت وبينت بدقة تفاصيل وزوايا وحالات إنسانية،
وهذا كاف لصنع فيلم يمتلك شفافية وصدقا، بما يجعله مرايا شفافة وقاسية في انعكاس عنف الحياة والخوف والقلاقل في الذات والروح والجسد،
ليكون «الرحلة 404» خطوة إضافية إلى جوهر السينما،
سرد بصري أخاذ لحكاية تصيب المرء في أحواله وانفعالاته وتأملاته، فتضعه أمام خيارات جديدة،
بعد عيشه اختبارات وتحديات صعبة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة