جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيالدراما التاريخية: بين سطوة الوثيقة وتحليق الإبداع

الدراما التاريخية: بين سطوة الوثيقة وتحليق الإبداع

الدراما التاريخية هي العمل المشهدي (مسرح، سينما، تلفزيون) الذي يتناول حدثاً سردياً حكائياً في زمن ماضٍ حصرياً، أي أنه محكوم حتماً بذلك التاريخ، على الرغم من إمكانية تأويله، أو إسقاطه على ما يحدث اليوم؛ يتبع ذلك ـ من أجل الإقناع والتبرير ـ محاولات تقليد الألبسة والديكورات وأماكن التصوير، بحيث تزيد جرعة الإيهام، بأن العمل يشاكل أو يحاكي ظروفه التي جرى فيها.

الإشكال الأولي: إن الوثيقة التاريخية، ليست نصاً منجزاً نهائياً، لأنها مكتوبة من وجهة نظر كاتب معين، أو إيديولوجيا معينة، ما يعني أن عرضها بصرياً، يخضع لرؤية ذلك الكاتب، وهنا تنشأ المشكلة: هل تتوافق الوثائق التاريخية مع وجهات النظر المعاصرة؟ هل يخونها الكتاب لإضفاء مزيد من الدراما عليها؟ أم ينقصون منها، نزولاً عند رغبات الرقيب الداخلي أو الخارجي، بما يتلاءم مع الحاضر؟ أم يسعى الكتاب لتبييض صفحة الشخصيات التاريخية، لأنها مرويات محبوبة، فلا يتجرؤون على كسر أفق توقع الناس فيها؟

يحيل هذا الكلام كله إلى إشكالية ملتبسة غير محلولة، مع ذلك، فقد تجرأ الكتاب على التاريخ، وقدموا نماذج من شخصياته، محاولين الهروب من تلك الإشكالية.

نماذج من الدراما:

“أوديب ملكاً” للكاتب “سوفوكليس”: يُظن أن هذه المسرحية، عُرضت لأول مرة عام 485 قبل الميلاد، وقد أشار نصها، إلى أن أحداثها أسطورية، ما يعني أنها أول دراما تاريخية، تتناول أحداثاً مضت، ما يبعدها عن “شبهة” المعاصرة، فتلقي مثل هذه المسرحية، على أنها معاصرة، لن يسر المشاهدين! وهذا كان حلاً من الحلول للهروب من مشكلة موضوع المسرحية؛ على الرغم من مشاعر الندم والتعاطف والخزي….إلخ، التي تعتري المشاهدين في تلك المسرحية، إلا أننا سنقول جميعاً: لسنا “أوديب”، ولا يمكننا النوم مع أمهاتنا، وقتل آبائنا! مع ذلك، جاء من فسر هذه المسرحية، ومن قبلها الأسطورة المأخوذة عنها، ليدلل على أننا كنا كذلك، مثل أبناء عمنا من الحيوانات، ولم نرتقِ لحالة البشر، إلا حين تركنا ذلك.

فيلم “ناصر 56”: يسرد الفيلم حياة “الزعيم جمال عبد الناصر” عام 56، حين اتخذ قراره بتأميم “قناة السويس”، وما جرى قبل ذلك، وبعد ذلك بقليل…

اضطر الممثل الراحل أحمد زكي لتقمص فيزيائي ـ نفسي لشخصية الزعيم، لكي يكون مقنعاً، فهذا ليس بالأمر السهل، لأنه يُحد من أدوات الممثل، ولأنه تمثيل لدور شخصية محبوبة، وصل حبها درجة التقديس! لأن المشاهد في السينما والتلفزيون، يطابق بين الشخصية والممثل، وتكون درجة الاختلاف بينها صفراً، لحل هذه المشكلة في شخصية تاريخية، يعاني الممثل لجعل كل ما فيه، يشبه تلك الشخصية، ومع ذلك، فلن يحصل ـ على الأغلب ـ على جعل تلك الدرجة صفر! ببساطة هنالك من سيقول: لم يكن الزعيم هكذا، بل كان هكذا… لم تكن الأحداث في الفيلم كما كانت في الحقيقة، لأنه قبل يومين من القرار….. إلخ، ما يعني أن مصداقية النص الدرامي على المحك، فهو لا يستطيع قول كل شيء درامياً، في حين إن الوثيقة التاريخية، تقول كل شيء من وجهة نظرها، ولا يحاسبها أحد!!

مسلسل “الزير سالم”:

الزير سالم شخصية إشكالية في التاريخ العربي، يأتي ذلك من التضخيم الذي لحق بها، ككرة ثلج تكبر عبر العصور، خصوصاً عصور الانحطاط العربي، حيث تزداد الحاجة لتضخيم الأبطال، في وقت تعز البطولة الحقيقية على أرض الواقع (سيف بن ذي يزن، عنترة بن شداد….إلخ).

وماذا لو اختلطت تلك السيرة بشيء من المقدس، أسوة بسيرة النبي “موسى”، حين وضع في سلة من القش، وأرسل في الماء؟ وقد شاهدنا الزير، يوضع على عبارة خشب، ويُرسل في الماء؟!

إن ما جنح إليه كاتب المسلسل الراحل ممدوح عدوان، هو إضفاء البعد الملحمي على شخصية “الزير سالم”، ما يعني، أنها أعظم وأكبر من قدرات البشر(بحسب تعريف الشخصية الملحمية)، لكي تأتي بأفعال، لا يقدر عليها البشر العاديون، فلا يشبع الزير من الانتقام والثأر لقتل أخيه “كليب” من قبل ابن عمه “جساس”، ولا يموت ميتة واحدة، بل يعود من غيبته، ليعاود رص الصفوف للثأر.

هنا بالضبط المفارقة مع الوثيقة التاريخية بتضخيمها، فالمعروف أن هنالك “زير سالم”، وكان شاعراً في قبيلة “تغلب”….إلخ، لكن المشكوك فيه، أنه وصل، إلى ما وصل إليه من قوة، ومن إتيان ما يشبه الخوارق.

الآن: ماذا لو حصل العكس، وقُدم الزير كشخصية عادية، جرى له ما جرى، بحدود الوثيقة التاريخية؟ الأكيد أن ذلك لن يشد المشاهدين بالطريقة نفسها، خصوصاً أن المشاهد يتلقى المسلسل بأفق توقع، بأن الزير بطل الأبطال!

ما يعني أن الدراما التاريخية هنا، قد انحازت للدرامي التضخيمي على حساب التاريخي، فينشأ السؤال المطروح دائماً عليها: هل كانت وفية لوثيقتها التاريخية المأخوذة عنها؟

لقد عالجت بعض المسلسلات التاريخية أحداثاً جرت في البادية أيام الجاهلية، لكنها، لم تحدد التاريخ بالضبط، فهربت من شرط التأريخ، تحت مسمى “الفانتازيا التاريخية”، فرأينا حرية في اختيار القصص والحكايا، وفي اختيار الأزياء….إلخ.

لكنني أعتقد بأن مسلسل الزير سالم، لا يمكنه الهرب من حكايته الأساسية، بسبب الحكاية نفسها، فالمشاهد سيعرف “الزير سالم”، حتى لو كانت الشخصيات بأسماء أخرى وأزياء أخرى.

لقد اختار كاتب المسلسل الذهاب مع جهة الخيال الجمعي العام في تضخيم “الزير سالم”، على حساب التدقيق في الوثيقة التاريخية خدمة لجرعة أعلى من الدراما.

مسلسلات “البيئة الشامية”: يُسجل لهذه المسلسلات (باب الحارة نموذجاً) قدرتها على الإيحاء بصدقها التاريخي من حيث أنها جرت في العاصمة دمشق، من خلال مطابقة أماكن التصوير للأماكن الحقيقية، وصدق اللهجة، ومطابقة الأزياء.. فوقع المشاهدون في وهم الإيحاء بواقعية هذه المسلسلات، وقارنوا، على أساس أفق توقعهم، المسلسل بما كانت عليه حقيقة دمشق في تلك الفترات، التي يتناولها المسلسل، فوقع المشاهدون، ومن ورائهم النقاد، في بلبلة الموقف المعارض لما يرونه، وما عاشوه أو يعرفونه عن دمشق، على الرغم من أن المسلسل، بعكس مسلسل الزير سالم ـ لم يذكر اسماً علماً كان له تعالق بالأحداث في المسلسل!

أما إذا كان المسلسل يتناول فترة ما بالتحديد (مثلاً الانتداب الفرنسي على سوريا)، فهذا لا يحيل إلى أن ما نراه قد حدث فعلاً في تلك الفترة، لأن تحديد تاريخ وقوع أحداث معينة لا يحيل بالضرورة إلى علاقة التاريخ بالحدث، مثلما أن وقوع حدث تاريخي معين في وقت ما لا يستلزم بالضرورة ذكر الأحداث المتزامنة معه وغير المتعالقة معه (يمكن تمثيل مسلسل في فترة الاستعمار العثماني لدمشق، دون التطرق للحالة السياسية في ذلك الوقت)، ما يعني أن من سيقاوم الاحتلال الفرنسي لسوريا في المسلسل لم يكونوا موجودين في الحقيقة، فهذا المرئي هو خيال، وقد لا يبتعد عن خيال مسلسلات الفانتازيا التاريخية.

باب-الحارة
باب-الحارة

 الوثيقة التاريخية ـ إن صحت هذه التسمية ـ سيف ذو حدين حين تُنقل إلى عمل درامي؛ إن جرى تضخيمها وفق مقتضيات الدراما ستفارق صدقها ويكذبها الناس، وإن صدقت ستفارق “دراميتها” لأن الشخصيات التاريخية ليس درامية على طول الخط، وإلا تسقط الدراما في الوثائقي! مع العلم بأن بعض المسلسلات الوثائقية قدمت جرعات درامية أعلى مما قدمته بعض المسلسلات التاريخية.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة