عادل العوفي
«فليس الحنين ذكرى بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة ..الحنين انتقائي كبستاني ماهر وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب»
لطالما استعنت بكلمات المبدع محمود درويش هذه وانا في سعيي الحثيث للبحث عن اجوبة شافية ووافية لحالة « الحنين» التي تسيطر على علاقة المتلقي العربي بالدراما التلفزيونية
وتجتاح مشاعره وتفوح رائحتها في كل ارجاء مواقع التواصل الاجتماعي حيث يكفي نشر مقطع فيديو من مسلسل قديم او ما اضحى يوصف « بالماضي الغابر» و «الزمن الجميل» و « الايام الخوالي» و غيرها من المصطلحات التي تنضح حنينا حتى تجد عشرات التعليقات
وهي تندب وتتحسر وترثي وتردد «سقى الله على هديك الايام » .
لن ادعي البتة انني اغرد خارج سرب هذه الفئة وانني اراقبها من بعيد و استغرب و اضحك ؛
بالعكس اعتبر نفسي على رأس القائمة والدليل الاكبر انني قمت بإعداد برنامج تلفزيوني كامل على احدى القنوات التلفزيونية الفنية بعنوان يختصر حالتي الشخصية اولا وهو «حنين»
واقر واعترف بأن فترة التحضير كانت اشبه برحلة استجمام لذلك الماضي الجميل تمنيت الا تنتهي ؛
وهنا لابد ان نغادر تلك الحقبة قليلا ونضع اقدامنا على الارض وواقع الدراما اليوم
ونتساءل : هل هو كارثي لهذه الدرجة ؟
قطعا سنعود في مواد لاحقة للحديث بالتفصيل الممل عن الدراما السورية وما تكابده حاليا ومنه ننتقل للمحيط العربي الذي لم يعد ممكنا فصله عن المحلي لطالما ان هناك من ظل مترصدا للمواهب السورية ووجد الفرصة السانحة في «تحجيمها» و «تسطيحها» و «تقزيمها»
في اعمال تافهة لا تمت لواقعنا العربي بصلة وياللمفارقة تحت شعارات واهية على غرار «الدراما العربية المشتركة» وعناوين مضللة اخرى ظاهرها براق وباطنها مخزي و مثير للاشمئزاز
وبالعودة لموضوعنا الرئيسي الذي يتجسد بحدة اكثر مع المسلسلات السورية تحديدا ؛
والدليل الكم الهائل من الاهتمام و المتابعة وردود الفعل التي مازالت تحصدها مسلسلات مثل « الفصول الاربعة»
و«احلام كبيرة» و«الزير سالم» و« ذي قار » و«نساء صغيرات» و«مرايا» و « الخوالي» و «يوميات جميل وهناء»
وغيرها الكثير من اعمال تحمل البصمة السورية لكنها وحدت الوطن العربي بأكمله من المحيط الى الخليج .
ومن الامثلة الحية التي تكشف بجلاء سطوة الاعمال القديمة وقدرتها الفائقة على مجاراة كل ما هو حديث واسقاطه بالضربة القاضية نستحضر نموذجا تونسيا محيرا مازال حتى اللحظة يكتسح نسب المشاهدة في كل موسم رمضاني رغم وجود منافسة حامية الوطيس بين القنوات الخاصة هناك وطرحها لمسلسلات بمواضيع انية ؛ والمقصود هنا السلسة الكوميدية « شوفلي حل» التي ابصرت النور سنة 2005 وتتكون من ستة مواسم وهي من تأليف السيناريست والصحفي حاتم بلحاج واخراج الراحل صلاح الدين الصيد ؛ وحتى يومنا هذا مازالت تعرض بشكل يومي في وقت الذروة وتتسيد المشهد بتحقيقها لأرقام قياسية رغم ان الكل حفظ حلقاتها ومشاهدها عن ظهر قلب وفي خضم كل ما سبق هل يمكن اعتبار هذه السلسلة
« الايقونية» بمثابة «مرجع» يعتد به في عالم «السيت كوم التلفزيوني» مثلا ؟
قطعا لا وما ينساه او يتناساه الكثيرون ان «شوفلي حل» خلال مرحلة العرض الاول تعرض لموجة انتقاد لاذعة وتصدرت عناوين من قبيل «السلسلة السخيفة» و«ما هذا التهريج ؟» الصحف التونسية حينها؛
وفجأة تغير كل شيء وصارت نفس الشخصيات بمثابة «اساطير» لا يجوز الاقتراب منها او المساس بها ؛
لنصل للنقطة المراد طرحها و المرتبطة بكلمات درويش التي بدأنا بها هذه المادة ان « الحنين فعلا كبستاني ماهر وهو تكرار للذكرى وقد صفيت من الشوائب»
وتلك حالنا اليوم مع مسلسلات الزمن الجميل كما نسميها حيث تلاشت كل السلبيات وظلت عالقة في اذهاننا مرحلة الطفولة ببراءتها وجمالها وانصهر عالمنا الشخصي
مع حكايات وشخصيات تلك المسلسلات لتكون النتيجة حنينا وشوقا عارما يستبد بنا ؛
رغم ان هناك حقيقة ثابتة لا ينبغي القفز فوقها وسأختصرها في كلمات وردت في احدى المرات على لسان «شيخ الكار» المخرج الراحل هشام شربتجي حين قال مستحضرا احدى اجمل مسلسلاته « ايامنا الحلوة» «لم نكن نملك الادوات ..ولا الرأسمال ..ولكننا كنا نملك اياما حلوة»
صحيح واليوم نرى امكانيات فلكية وارقاماً ضخمة تصرف على استنساخ التفاهة والطامة الكبرى ان هذا المستنقع يصطاد اسماء لامعة لها في ذاكرتنا ووجداننا مكانة خاصة ..والحبل على الجرار ..
نختم بالتذكير ان فنانا القدير ياسر العظمة الذي مازالت حلقات «مراياه» تحصد الثناء والاعجاب وتطالها رياح ونوبات الحنين طرح هو الاخر قبل مدة ليست بالطويلة حلقتين في برنامجه على اليوتيوب بعنوان « اسقاالله زمان..»