وحدها السّيدة أم كلثوم لم تكن تفضّل الألاعيب الإيقاعيّة الّتي يمكنها أن تحرف ذهن المستمع إلى الإيقاع عن تتبّع جمال الصّوت والأداء.. فكثرت مشاداتها لهذا السبب مع عبد الوهاب
لمحة نظريّة
يتحسّس الكائن البشريّ الإيقاعات التّالية: إيقاع داخليّ هو نبض قلبه، وحركات تنفّسه، وإيقاعات خارجيّة هي تعاقب الّليل والنّهار، وتعاقب الفصول، وفي دماغه ساعة بيولوجيّة تتناغم مع الإيقاعات الخارجيّة، بينما يتحكّم جزء من دماغه بالإيقاعات الدّاخلية على حسب وضعه(نائم، خائف، مترقّب، هارب،…إلخ).
يقال إنّ الجنين في بطن أمّه، يتحسّس إيقاع قلبها، وحركات تنفّسها، وعندما يخرج، فإنّه يهدأ على صدرها، حين يعود لسماعها أوضح من قبل، في حين إنّه يضيّع حتّى شهر أو اكثر، الإيقاع الخارجيّ في تعاقب الليل والنّهار، طالما أنّه لم يكن يدركه في رحمها.
و يقال أيضاً:إنّ همهمات الإيقاع للجماعة البشريّة حين إنجاز شيئ يتطلّب جهداً، قد ضبطت الحركة المتزامنة للحصول على أكبر جهد في لحظة ما، وقد سبق ذلك اختراع الّلغة. ولا شكّ أنّ سماع صوت إيقاعيّ من ضرب شيء بشيء، كان أسبق على اختراع أيّ آلة موسيقيّة بدائيّة كالنّاي مثلاً.
إنّ مراقبة طفل يسمع أغنيّة إيقاعيّة، تثبت أنّ الكائن البشريّ إيقاعيّ، حين يبدأ الطّفل في تحريك ذراعيه وساقيه.
الإيقاع في الموسيقى: هو تتالي النغمات الحادّة العالية “تك” والواطئة الجّهيرة “دم” في متواليات “ميزورات” مضبوطة بوحدات زمنيّة متساوية تماماً، أيّ أنّه تقسيم للزّمن بطريقة ما، لجعل النّاس يدركون تلك التّقسيمات، كما هي في ذهن ضابط الإيقاع.
هذا يعني أنّ الإيقاع أبجديّة من حرفين، نحصل على مفرداتها من تشاكيل هذين الحرفين، مثلاً:دم تك\ دم تك، هو إيقاع الفوكس(المارش العسكريّ)؛غير أنّ البشر اكتشفوا أنّ الغنى الإيقاعيّ، يتطلّب أبجديّة أوسع من حرفين، فأضافوا الـ”سكتة”(إس) إلى الأبجديّة، كحرف صامت، فصار عندهم أبجديّة من ثلاثة أحرف، ما زاد من عدد الإيقاعات، إنّ الإيقاع:دم تك(الفوكس) يختلف عن الإيقاع دم تك سكتة(إس)، أو عن دم إس تك.
سرعة الإيقاع
هي عدد الميزورات المتكرّرة في الدّقيقة، فالموسيقى الإيقاعيّة مقسّمة إلى وحدات(ميزورات) متساوية تماماً، يضبط الإيقاع بداية ونهاية كلّ ميزورة بحركة منه، بحسب نوع الإيقاع. هنالك جهاز ميقاتيّ، يسمّى “الميترونوم” عبارة عن نوّاس ثقليّ، يضبط بتكتكاته بداية ونهاية الميزورة، فيساعد ضابط الإيقاع على ضبط سرعته فيزيائيّاً، قبل أن يتبنّاها عصبيّاً.
هنالك نظريّة تفيد، بأنّ كلّ إيقاع عدد ضرباته(عدد ميزورات النوتة الموسيقيّة في الدّقيقة) أقلّ من 70 (عدد ضربات القلب البشريّ في الدّقيقة) هو إيقاع بطيء، يساعد على الاسترخاء(إيقاع طربيّ)، مثال ذلك إيقاع الوحدة الكبيرة، الّذي ينظم أغلب أغنيات السّيدة “أم كلثوم”،إذ قد تصل السّرعة إلى 20 ضربة في الدّقيقة، أيّ أنّ النوتة الموسيقيّة موزّعة على فترات متتكرّرة 20 مرّة في الدّقيقة، ما يجعل المستمع يطرب ويهدأ.
أمّا الإيقاع الرّاقص، فهو ما يزيد عن 70 ضربة في الدّقيقة، وقد يصل في الإيقاعات الرّاقصة الصّاخبة إلى 120 أو 140 ضربة في الدّقيقة، ما يجعل الإنسان يتفاعل مع هذه الإيقاعات، ويبدأ بتحريك رجليه أو يديه، أو التّصفيق بكفّيه، ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة على الأطفال، حين إسماعهم مثل هذه الإيقاعات.
يستطيع البشر بيسر، أن يصفّقوا غريزيّاً مع بداية كل ميزورة في النّوتة، بدون أخطاء تُذكر، ما يثبت الحسّ الإيقاعيّ البشريّ، كما ذكرنا ذلك في البداية.
لقد انتبه إلى هذه الخاصيّة علماء وموسيقيّون قديمون، مثل”الفارابي”، الّذي كان يعالج مرضاه بالموسيقى الهادئة، ذات الإيقاع البطيء.
الإيقاعات الشّائعة في الموسيقى العربيّة
انتظمت أكثر الموسيقى العربيّة على ثلاثة إيقاعات، هي : إيقاع الـ”لفّ” أو الملفوف أوالـ”زار” أو الأيّوب( وهي إيقاعات على الوزن نفسه 2\4)، وإيقاع الـ”دويك” أو البلديّ، أو الصّعيديّ، أو المقسوم، أو القتاقوفتي…إلخ، وهي إيقاعات على وزن 4\4 سريعة راقصة في أغلب الأحيان، وعلى إيقاع الوحدة الكبيرة أو الصّغيرة، من وزن 4\4 أيضاً، إلّا أنّه بطيء، غنيّ بالسّكتات، ما يجعله يطرب السّامع.
يقصد من بسط الكسر 2 مثلاً، وجود حركتين إيقاعيّتين في الميزور الواحد، ومن المقام 4، نوع العلامة الموسيقيّة في النّوتة الموسيقيّة فهي السّوداء، التّي تساوي ربع(1\4) من العلامة الأم المستديرة ذات الأربعة أزمنة، مع العلم أنّ الزّمن في الموسيقى اعتباريّ، ولا يوجد تقسيم للأزمان يحيل إلى الثّانية أو أجزائها، إلّا إذا احتسبنا عدد الضّربات في الدّقيقة…إلخ، القصد أنّ السوداء هي زمن واحد من 4 أزمنة من المستديرة، بغضّ النّظر عن القيمة الفيزيائيّة لهذا الزّمن.
أمثلة على إيقاع 2\4 : أغنية المرحوم فؤاد غازي:”لا زرع لك بستان ورود”، أغنية الأخوين الرحبانيّ: “يا جبل الشّيخ”.
أمثلة على إيقاع البلديّ4\4 :أغنية المرحوم فهد بلّان:”يوم على يوم”،أغنية “يا دارة دوري فينا” للأخوين رحباني.
أمثلة على إيقاع الوحدة الكبيرة4\4: أغنية”عوّدت عيني على رؤياك”، أغنية “قارئة الفنجان، مقطع “سترجع يوماً يا ولدي”.
كيف يجعل الإيقاع الموسيقى أجمل؟
انتبه الملحّنون إلى أنّ التنوّع الإيقاعيّ في الأغنية نفسها، يجعلها أجمل، فالتّكرار مملّ، لذلك استخدموا أكثر من إيقاع في الأغنية نفسها، ولاحظوا أن تكون تلك الإيقاعات من الوزن نفسه(الرّباعيّ مثلاً)، لأنّ الأذن البشريّة تستسيغ تنويع الإيقاع على الوزن نفسه، مثلاً الانتقال من إيقاع الوحدة الكبيرة إلى إيقاع البلديّ في أغنية “كلام النّاس “لـ”جورج وسّوف”، أو من إيقاع رباعيّ بلديّ إلى رباعيّ مصموديّ وإلى وحدة كبيرة في أغنية “أيّ دمعة حزن” لعبد الحليم حافظ”، في مقطعي: قلبي دقّ…إلى مقطع: “من كام سنة….”
كذلك نقل بعض الملّحنون الإيقاع من سرعة بطيئة إلى سرعة أسرع، لتنبيه المستمع، مثل القفزة الجميلة في أغنية “سوّاح”(مقدّمة مقطع:”يا عيوني”).
إدخال إيقاعات جديدة
أدخل بعض الملحّنين العرب إيقاعات غربيّة، لم تكن متداولة في الموسيقى العربيّة، ولا شائعة على السّماع العربيّ، فقد أدخل “فريد الأطرش” إيقاع الفالس 3\4(أغنية ليالي الأنس في فيينا) ، كذلك أدخل عبد الوهاب إيقاع التانغو( في أغنية سهرت منه الّليالي)، وأدخل الرّحابنة إيقاع الديسكو في أغنية:”بلغي كلّ مواعيدي”.كما أدخل كثير من الملحّنين العرب إيقاع “الفوكس”(المارش العسكريّ) في تلحين الأغاني الوطنيّة، لما يتميّز به من تحفيز وبساطة، مثال النّشيد الوطنيّ السّوريّ” ونشيد”موطني”.
الواضح ممّا سبق أن الإيقاع يتيح الّلعب الموسيقيّ على مستويّين: الأوّل نوع الإيقاع، والثّاني سرعته، فتغيير السّرعة لا يقلّ إبداعاً عن تغيير النّوع، يلاحظ ذلك في أغنية”ألف ليلة وليلة”.
كبار أدخلوا الإيقاعات الغربية على الموسيقا العربية
إنّ أكثر من برع في استخدام الإيقاعات المتنوّعة في الأغنية نفسها هو الملّحن “بليغ حمدي”، خصوصاً ألحانه لـ”ميادة الحنّاوي”(كان يا ما كان)، ولعبد الحليم حافظ”(زيّ الهوا)، كذلك برع في ذلك “محمدعبد الوهاب”، في ألحانه لوردة الجزائريّة(في يوم وليلة) ولعبد الحليم(فاتت جنبنا)؛ من الهامّ أن نذكر هنا، أنّ السّيدة أم كلثوم، لم تكن تفضّل الألاعيب الإيقاعيّة، الّتي يمكنها أن تحرف ذهن المستمع إلى الإيقاع عن تتبّع جمال الصّوت والأداء، حيث يلزم أن يكونا في مقدّمة العناصر لأغنيتها، ومشهورة مشادّتها مع محمّد عبد الوهاب في أغنية “فكّروني”، حيث أصرّ “عبد الوهّاب” على إدراج “تفريدة” إيقاعيّة، بينما رفضت أم كلثوم ذلك، متذّرعة بالتّصفيق الّذي قد يُنسي الناس جوّ الأغنية، مع ذلك، أصرّ “عبد الوهّاب” على رأيه، وصفّق النّاس مع تفريدة الإيقاع في النّصف الثّاني من الأغنية، بينما لم يكن “عبد الحليم” يمانع في ذلك، وكان يفرد “صولوهات” لكلّ الآلات، بما فيها الإيقاع، مثال تفريدات الإيقاع في أغنية “قارئة الفنجان” لآلة الرقّ في مقطع”بحياتك يا ولدي”.