جوى للانتاج الفني
الرئيسيةأيقونةالإنسان ويلز والمواطن كاين

الإنسان ويلز والمواطن كاين

الفيلم الذي بدأ كمختبر تجريبي، أريد له أن يكون كتالوغا اجتماعيا / اقتصاديا، وانتهى به الأمر بأن تحول إلى مرجع سينمائي يدرس ويبحث في أمره بعد أكثر من ثمانية عقود على إنتاجه وعرضه.

لماذا المواطن كاين؟ لم لم يكن رجل السياسية كاين؟ غول الصحافة كاين؟ ربما العاشق كاين أو مقتني التحف كاين؟

أين تكمن خصوصية التجربة الأولى لأورسن ويلز؟ وما الإنذار الذي خطه المخرج للمتلقي ولنفسه على حد سواء؟

«المواطن كاين» على المستوى الظاهر هو سيرة افتراضية لرجل جاء من لا شيء ووصل إلى قمم المجد، ومن ثم خسر كل ما حاز عليه… صعود وهبوط أي إمبراطورية، سواء كانت متمثلة بدولة، بعائلة، أو برجل واحد.. الرحلة المحتمة لأي جسد سلطوي عبر التاريخ، ابتداء بالقدرة على التعاطف مع الآخر، مروراً بالموقع الأبوي وتحول هذا التعاطف لإحساس صادق أو كاذب بالمسؤولية الذي يدفع بصاحبه نحو السطو على حياة الآخر، وانتهاء بالاستبداد طبعاً.

ما هو الطرح النوعي في شخصية تشارلي كاين؟ إن عدنا إلى الشرط الزمني للفيلم، فهو من إنتاجات عام 1941، وصدر قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية بما يقارب الثلاثة أشهر، أي قبل أن تتحول الدولة إلى القطب الأعظم والشرطي العالمي.

الفيلم جاء في المنتصف الثاني من الحقبة الذهبية لهوليوود، الفترة التي تبعت دخول الصوت إلى السينما عام 1927، واتبعت بفترة أفلام الجريمة (Noir). نقلة عاصفة بين حقبتين سينمائيتين، واحدة تصور الحياة بجروتيسك ساخر، والثانية تظهر أن الجريمة والفساد هما الوقود الجديد للمجتمع في وقت كانت أميركا تصدر نفسها خلاله على أنها البوصلة الأخلاقية للكوكب.

البهجة والذهول من رؤية السينما كصوت وصورة قد بدأت بالخمود في أول الأربعينات، بالذات أن كل أميركي في هذه المرحلة، إن لم يكن قد حضر سينما هنا أو هناك، فهو حتماً قد مر على مقاطع بروباغاندا عما يحصل في أوروبا خلال تلك الفترة، مع مؤثرات سمعية مضافة وصوت للراوي بدلاً عن التقطيع بين المادة المصورة والكتابة الإخبارية سابقاً. سقف التوقعات تجاه ما يمكن أن تقدمه السينما أصبح يتطلب صنع مادة روائية الطابع، بشخصيات لها تحولات ومصائر وصراعات. وهنا يحل أورسن ويلز ليقدم شخصية تشارلي كاين في فيلمه، ما قد نستطيع وصفه بالبطل المضاد الأول في السينما، تبعه مايكل كورليوني في «العراب» بعد ثلاثين عاماً.

شخصية تشارلي لم تكن سباقة فقط في كونها مثيرة للأسئلة المتعلقة بالرمادية الأخلاقية للبطل، بل أيضاً بكونها أول الشخصيات الترميزية التي تنم عن قراءة صانع العمل للمستقبل. تشارلي شابلن فعلها عام 1940 في فيلم «الديكتاتور العظيم»، رائد التصدي للموضوعات الحساسة من خلال الكوميديا، الذي ختم الفيلم بخطابه الشهير للعالم، موصياً لنا بما يجب علينا أن نفعل وكيف يلزم أن نفكر بعد سقوط الفاشية كي نتجنب تكرار التجارب المدمرة. شخصية الحلاق البسيط الذي يشبه الديكتاتور المرعب، تحول عندما اعتلى المنصة إلى كل بسطاء وفلاسفة العالم في آن واحد، حتى أنه أخذ طابعاً نبوياً.

بالعودة إلى أورسن ويلز واختياره أن يعرف بكاين كمواطن في عنوان الفيلم، ومن ثم النقيض في تصميم الغلاف الذي يظهر فيه تشارلي بهالة ألوهية، مطلاً ببدلة بيضاء ناصعة من فوق زوجتيه المرتديتين فستانين أسودين.

أنسنة الرأسمالي في «المواطن كاين» منعت الفيلم في الاتحاد السوفيتي، وشيطنة الرأسمالية أغضبت المؤسسات الضخمة في أميركا. وهذا هو جوهر اختيار كاين بأن يسمى مواطناً. كان باعتقادي ينذرنا من أشكال الطغيان في عصر الذرة والسرعة والعولمة، أكثر وقت في تاريخ البشرية تكون فيه السلطة والثروة محصورتين بعدد قليل من الأفراد والشركات.. وبأن مستبدي العصر قد باتوا أكثر صعوبة من حيث الاستشعار والتنبؤ بأمرهم، وربما اللهاث خلف الحلم الأميركي الذي كان ما يزال في نعومة أظفاره حينها، سيخلق من كل مواطن عادي مشروع وحش نرجسي سلطوي، ومن كل بيت مقصلة تعدم عليها مبادئ وأسس المواطنة نفسها.. تحول الجمهورية الديموقراطية إلى دولة عميقة.

ماذا عن «روز باد»؟ آخر ما نطق به تشارلي قبل موته.. البحث الحقيقي الذي دفع بأحداث الفيلم، علنا نجد القطعة الأخيرة من بازل الرجل الأكثر حضوراً وغموضاً في أميركا. المذهل فعلاً هو أن أورسن ويلز استطاع اختزال مأساة وخلاص شخصيته على حد سواء بغرض واحد ذي عدة دلالات. روز باد هو لوح التزلج الخاص بتشارلي خلال المشهد الوحيد الذي نراه فيه طفلاً. اللعبة التي كان يعيش براءته معها، والأداة التي دافع بها عن تلك البراءة عندما أرادت الحياة أن تلوثها. كيف بنيت فكرة روز باد، وثم ما بني عليها، باعتقادي عبارة عن أول Plot Twist في السينما الروائية.

إيهام المشاهد بأن كاين هو الرجل النيتشوي الخارق، ومن ثم فضح أمره ككائن فرويدي كان مقرراً له مصيره مسبقاً بواسطة قوى متعذر بلوغها أو إدراك ماهيتها. الحضارة عند ويلز تترامى على امتداد ألف ميل، لكن تجذرها بالأرض هش ومهزوز.

في النهاية، لا أعتقد أن الصدفة دفعت ويلز ليقدم في باكورة أعماله الإنسان المقهور الذي يسمم حس التملك والرغبة بالثأر قضيته، الضحية التي تتحول إلى جلاد عند الإمساك بكرباجي السلطة والمال.
وإذا نظرنا إلى تاريخ أورسن ما بعد «المواطن كاين»، سنجد أنه قدم ستة تصورات مختلفة لشخصية شايلوك من مسرحية «تاجر البندقية»، أكثر شخصية شكسبيرية تحب أن تكرهها ومن ثم تكره أن تحبها. فاقد الحب ومقتني الأشياء، تماماً كما كان تشارلي كاين.

رحل أورسن ويلز وهو مسكون بسؤال عن إرث رجال العلامات الفارقة، السؤال المحوري في «المواطن كاين».

أذكر جيداً جملته في مقابلة على شبكة BBC عام 1960 حين قال:

«أتمنى أن يتذكرني العالم كرجل طيب.. لا كعبقري صعب المزاج».

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة