جوى للانتاج الفني
الرئيسيةموسيقاالأغنية التراثية المستباحة .. لماذا نمنح الحصانة للشعر وننزعها عن الألحان؟

الأغنية التراثية المستباحة .. لماذا نمنح الحصانة للشعر وننزعها عن الألحان؟

فراس القاضي

إنها أسئلة قديمة: كيف نتعاطى مع التراث بأنواعه المختلفة؟
كيف نعيد تقديمه للأجيال الجديدة بقالب يلائم ذائقتهم ويتناسب مع مفردات زمنهم؟
هل يكون لزاماً علينا أن نسعى إلى تطويره؟
..

تعددت الإجابات وتوزعت على مذاهب ووجهات نظر ومدارس عديدة، لكن القاسم المشترك بينها، أو بين معظمها بدقة أكبر، 
هو الاتفاق على ضرورة عدم المساس بجوهر التراث خلال عملية النقل والتطوير،
ليبقى محافظاً على الصورة أو الفكرة الأولى التي نشأ منها، لأنها، بالضرورة،
تعكس ظروف وفكر وثقافة تلك الفترة..
غير أن هذا الاتفاق لا ينسحب، للأسف، على جزء من هذا التراث: الغناء التراثي، الذي يحظى تغيير جوهره بتأييد عدد كبير من المعنيين والمهتمين
.

سأشرح أكثر حول ما سبق: هل من الممكن أن تحظى بتأييد من أحد فكرة تغيير مفردات بيت شعر لامرئ القيس، أو حسان بن ثابت، أو النابغة الذبياني، أو المتنبي.. بحجة تسهيل فهمه؟.
هل من الممكن أن يلقى تغيير تسريحة “الموناليزا”، أو مكان جلوس السيد المسيح في لوحة “العشاء الأخير” لـ ليوناردو
دافينتشي، أو وضعية جلوس الطفل في لوحة “الطفل الباكي” لـ جيوفاني براكولين، تأييداً من مختصين أو حتى غير
مختصين؟

أعتقد أن الجواب هو لا بالتأكيد، لأن في ذلك تزويراً موصوفاً، إضافة إلى التجرؤ على موهبة أصحاب هذه الأعمال ورؤاهم.
لكن بالمقابل، وللمفارقة الغريبة،
فإننا نجد من يؤيد تغيير لحن أغنية تراثية تحت مسمى “التطوير” أو “إعادة التوزيع”،
وهما، بالمناسبة، مفهومان مختلفان تماماً لا تسمح مساحة هذا الحديث في الخوض فيهما.
ما يحدث هنا..
إزاء التراث الغنائي، يبرره أصحابه بتطور الحياة، ونمط الموسيقى، وذائقة الناس.
ولم أفهم لمَ لا يسمح تطور الحياة، ونمط الشعر أو الرسم وذائقة الناس.. بتغيير الشعر واللوحات، ويسمح فقط بتغيير الألحان؟!
واليوم يتزايد عدد الفرق التي استسهلت الأمر،
وبدأت بتجربة لأغنية تراثية محددة من منطقة محددة، ثم استولت على تراث كل المناطق،
وغيرته وصدّرته من جديد بألحان جديدة أو شبه جديدة، وبعضها، بلا شك، جميل، لكن جماله لا يعفيه من أنه تزوير.

زاد من خطورة الموضوع إهمال الإعلام الشديد لموضوع التراث والتعريف به،
ما سبّب انقطاعاً طويلاً بين غير المختص (المستمع العادي) وبين تراثه الفني الغنائي،مما ساعد (مطوري التراث) على الانتشار، وعلى تلقف الناس لما يقدمونه.

وتتجلى المشكلة بشكل أوضح لدى أبناء الجيل الجديد المنقطعين عن تراثهم، والذين سيظنون أن الأغنية التراثية الفلانية، هي التي سمعوها من هذه الفرقة أو تلك.

قد يبدو الأمر برمته ضرباً من المبالغة في الكلاسيكية، لكنه ليس كذلك، ولا علاقة له بالتعصب،
بل هو حرص على آخر أنواع الهوية الجامعة في سورية، وربما الوحيدة،
وهو لا يعني ولا ينم أيضاً عن الخوف من التطوير والتجديد، لكن التطوير أمر آخر تماماً،
أمر بالإمكان القيام به دون تغيير اللحن وبالتالي جوهر الأغنية، وذلك عبر توزيع جديد، أو إضافة آلات جديدة، أو صناعة (هارموني)،
لكن بالتأكيد ليس عبر تغيير اللحن الأساسي، لأن التراث هوية المنطقة التي أنتجته،
وتعريف بأهلها الذين كانوا يكتبون بهذا الشكل، ويلحنون بهذا الشكل،
ويستخدمون هذه المقامات، وهذه التشبيهات، وأي تغيير في ما سبق هو دخيل عليها وعلى هويتها وتضييع له.

إن غالبية الأغنيات التراثية – إن لم يكن جميعها – مصدرها الأرياف، وبالمناسبة،
فإن الكثير منها لم يؤلّف بقصد إنتاج أغنية بالشكل الذي نعرفه وكما هو معتاد؛ (المطرب يحصل على الكلمات من شاعر، ثم يختار ملحناً معيناً، ثم يتم التدريب عليها،
ثم تُسجل وبقية المراحل إلى أن تصل للمستمع)، وإنما – وبحسب الكثير من الروايات والباحثين – كانت الأغنية تبدأ ببيت شعر أو بيتين من فلاح على باب داره،
أو في الحقل خلال الزراعة أو الحصاد (وهذا يؤكده وجود أغاني تراثية خاصة بالحصاد)
فيضيف فلاح آخر بيتاً آخر أو أكثر، ثم “يدندنها” أحد الذين حفظوا الكلام بلحن واحد للازمة والمقاطع،
وهو حال أغلب الأغاني التراثية من الناحية اللحنية، وبشكل أقل بكثير: بلحنين، أي لحن للازمة، ولحن مختلف للمقاطع.

ما سبق يدلك فوراً على أن المقام المستخدم في الأغنية هو مقام شائع، معروف، بسيط، لا تعقيدات فيه، مقام أصيل وليس فرعياً،
مقام “يسيل” من الذاكرة دون جهد لاستدعائه، لذا لا يستقيم وجود أغنية تراثية من المنطقة الشرقية أو الساحلية على مقام (الكرد) مثلاً!
وإنما حتماً ستكون على (البيات) أو (الحجاز) أو (الصبا) أو (السيكاه) أو (العجم) بأبعد الاحتمالات.
كذلك فإن الإيقاعات المستخدمة في الأغاني التراثية هي إيقاعات بسيطة وقليلة تحصى على أصابع يد واحدة (بلدي – مقسوم – لف – هجع – مثلث عراقي)
وأقل بكثير إيقاع (الوحدة)، إيقاعات يدلك عليها فن التعبير الجسدي المستخدم في تلك المناطق،
أي (الدبكة)، أي أنها حتماً إيقاعات فيها حركة، فهل رأى أحد من قبل (دبكة) على إيقاع بطيء؟ أو سمع أغنية تراثية لحنها يميل إلى الرومنسية والهدوء كما فعل،
ويفعل وسيفعل، “المطورون المزورون” الجدد؟
وثمة وجه آخر للمشكل:، إن ما أصبحت عليه الأغنيات التراثية، أي لحنها وحلتها الجديدة، ستكون حتماً موضع دراسة وبحث بعد سنوات من الآن من قبل المختصين بهذا الشأن،
لذا فإن تقديم الأغنيات التراثية تحت مسمى التطوير، بمقامات وقوالب بعيدة عن بيئة إنتاجها، سيؤدي بالطبع إلى خلل في دراستها ونسبها إلى منطقتها الأصيلة الحقيقية مستقبلاً.


وهنا سؤال كبير لا بد من طرحه: ألا يجب أن يكون هناك جهة رسمية، أو أهلية، فكرت بما فكرنا به وأرّقها تضييع تراث منطقة أو مناطق؟

فليجبني مؤيدو “تطوير”ي التراث بالشكل الذي تحدثنا عنه: بعض القرى والمناطق السورية أفرغتها الحرب،
وحتى اليوم لم يرجع أهلها إليها وربما لن يرجعوا.. ما الذي بقي من هذه المناطق سوى ذكرياتها،
وعلى رأس هذه الذكريات أغنياتها؟ وإن عبثنا بها، ما الذي سيبقى منها؟

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة