جوى للانتاج الفني
الرئيسيةقضيةأين الأغنية الوطنية السورية؟ وكيف تحولت إلى أغنية سرافيس ؟

أين الأغنية الوطنية السورية؟ وكيف تحولت إلى أغنية سرافيس ؟

فراس القاضي

وكأن الزمان توقف هناك، توقف عند
“سورية يا حبيبتي”، “بكتب اسمك يا بلادي”، “سائليني يا شآم”، “شام يا ذا السيف”، “قرأت مجدك في قلبي”.. وغيرها من الأغنيات التي خلّدت دمشق وسورية وحفرت عميقاً في وجدان السوريين،
لدرجة أن قسماً غير قليل منهم ما يزالون يستمعون إليها حتى الآن،
أي بعد حوالي أربعة عقود على إنتاجها، وقد يورثونها لأولادهم.

اللافت هو أن بين هذه الأغنيات، وكثير غيرها، قاسماً مشتركاً:
جميعها من كلمات وألحان شعراء وملحنين غير سوريين، (تحديداً: لبنانيون)،
الأمر الذي يثير سؤالاً كبيراً في الأذهان:
ما الذي ينقصنا لإنتاج أغنية وطنية بمستوى الأغاني السابقة؟ أو على الأقل: أغنية وطنية جميلة تعلق في أذهاننا، نستشهد بها إن دعت الحاجة، ونستمع إليها كلما ضج الحنين لسورية التي كانت؟

كيف تحولت الأغنية الوطنية السورية إلى أغنية راقصة نستمع إليها في (السرافيس)؟ ما السبب؟ هل ينقصنا كتّاب؟ أم ملحنون؟ بالتأكيد لا، وتترات المسلسلات السورية تشهد، فهل المشكلة إذاً في عدم وجود جهة منتجة؟ أم افتقاد للحالة الوطنية الجمعية الجامعة التي تؤدي إلى إنتاجها؟

وقبل مناقشة الأسباب، لا بد من التأكيد على أن الكلام السابق لا يعني أن السوريين لم ينتجوا ولا أغنية واحدة من هذا الطراز، وإنما هي أغان قليلة جداً تكاد تعدّ على أصابع يد واحدة، واليوم تكاد تُنسى.

حامل جمالي واحد

الكاتب والصحفي والشاعر هاني نديم لا يرى أن المشكلة هي مشكلة في الأغنية الوطنية فقط، بل هي أعقد وأعمق وأشمل، وتنطبق على مفهوم الأغنية ككل.

يقول لـ “فن وناس”: في دائرة الجمال، والتي يجب أن تكون مكتملة بين غناء وتشكيل ومسرح وآداب وفلسفة، تتراجع الأغنية في سورية بشكل يثير الأسئلة ــــ حقيقة الأمر ـــ عن الفروع الأخرى، فإن نحّينا القدود الحلبية وإنتاجات المغنين الذين تعاملوا مع شركات عربية عالمية، لا يكاد يذكر الغناء السوري، وفي هذا سؤال يجب أن يتنبه له المسؤولون عن الأمر، وهذا ينطبق على الغناء عموماً، وعلى الأغنية الوطنية بطبيعة الحال. إذ أن الموسيقا حامل جمالي واحد، إن تراجع المصدر تراجعت الفروع.

ويعتقد نديم بأن الأغنية الوطنية اليوم بحاجة إلى صناعة “كما صنعنا الدراما السورية”. فخلال العقد الأخير، تنبّه المغنون إلى أهمية الأغنية الوطنية، وظهرت أغان جيدة، ولكن بالمقارنة مع الضخ الإبداعي السوري الهائل فإن عشر أو خمس عشرة أغنية لا يعني الكثير.

هاني نديم
هاني نديم

المصنع غير موجود

الموسيقي والملحن رضوان نصري جاء كلامه مؤيداً للشاعر نديم في جزئية وجود مشكلة في الأغنية السورية ككل، واصفاً المشكلة بالقديمة الجديدة، إذ أن الأغنية ــ ومنها ضمناً الأغنية الوطنية ـــ ليست موضوعاً فكرياً وموسيقياً فقط، بل هي بحسب توصيفه “معمل”، معمل له كوادر وتقنيات وفرق متعددة المهام، معمل يصنع أغنية ويروج لها عبر أكثر من مؤسسة، وهذا المعمل غير موجود في سورية، سواء للأغنية الوطنية أو العاطفية، لذلك نرى دوماً الأغنية السورية متفاوتة المستوى، وليس لها ظهور، والمطرب السوري يضطر للخروج من البلد حتى يُعرف ويشتهر هو وأغنياته.. هذا أولاً.

يضيف نصري: الأمر الثاني، أنه في دول أخرى، مثل لبنان على سبيل المثال، يعملون على الأغنية الوطنية كأغنية عامة تعيش طويلاً، وتبقى موجودة، ابتداء من فيروز التي لديها خط وطني واضح في أغنياتها، ثم مارسيل خليفة، ثم إيلي شويري، ثم جوليا بطرس التي أخذت خط المقاومة، وعدد كبير من المطربين، أي أنهم يشتغلون على أغنية لا تندثر، وهذا له علاقة بالفكر وعمقه الذي يؤدي إلى الاستمرارية أو عدمها.

رضوان-نصري
رضوان-نصري

أغاني مناسبات وتجييش

أما في سورية، فيرى نصري أنه ومنذ زمن طويل، فإن كتابنا وملحنينا يشتغلون على أغنية مناسبات وأعياد، أي الأغنية الاستهلاكية التي تنسى بسرعة، لأن لا عمق فيها لا في الكلمات ولا في التلحين، يضاف إلى ما سبق أن منتجي الأغنية الوطنية السورية يشتغلون عليها بطريقة واحدة، وهي الطريقة التجييشية الحماسية، وبشروط غير صحيحة وغير ملفتة للنظر.

وأوضح نصري كلامه بمثال عن أغنيات فيروز عن لبنان التي لم يكن لها علاقة بالإيقاع والتجييش، بل باستجرار العاطفة نحو الوطن والناس، مثال آخر عن الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب التي أنجزت منذ فترة قريبة أغنية عنوانها “سلم عالشهدا اللي معاك” وهي أغنية عاطفية رومنسية لاقت نجاحاً ورواجاً كبيرين، أما في سورية، فتحولت الأغاني “الوطنية” في السنوات الأخيرة إلى أغان شعبية جوهرها الأساسي الإيقاع، لذلك لا نستطيع حفظها، وتموت بسرعة.

وقدم الملحن نصري نموذجاً على حتمية نجاح الأغنية الوطنية إن كانت رومنسية وعاطفية وعميقة وليست بالشكل الذي يتم الترويج له، ذلك المتمثل بالتجربة التي قام بها ليثبت فكرته، حين لحّن أغنية «ويمر بي طيفها» كشارة لمسلسل «عناية مشددة»، (كتابة علي وجيه ويامن الحجلي، إخراج أحمد ابراهيم أحمد)، والتي غناها الفنان اللبناني (آدم) عام 2015، أي في الوقت الذي ذهب فيه كثيرون إلى إنجاز أغنية وطنية شعبية وتهييجية، بينما كانت أغنيته ذات علاقة بالعاطفة والناس والمشاعر، فتوحد خلفها السوريون وتحولت إلى ما يشبه الشعار، بل وغناها مطربون لبنانيون وحولوا كلامها إلى بيروت، وكانت دليلاً على أن إنجاز أغنية وطنية بطريقة عاطفية سيجعلها تصل إلى عدد أكبر من الناس وتعيش لفترة أطول.

مقياس نسبي

الكاتب محمود إدريس أكد أنه ثمة أغان تم طرحها مع مطلع الأزمة التي تعيشها البلاد وحققت رواجاً لا بأس به، وكانت له وجهة نظر مختلفة، فقد رفض بداية التعاطي مع القضية من ناحية جمالية الأغنية، لأنه مقياس فضفاض ونسبي بدرجة كبيرة حسب رأيه.

وأضاف: هناك أغان وطنية كثيرة صُنّاعها سوريون، وتغنى بها نجوم سوريون كلٌ حسب المدرسة التي يتبعها في الغناء، أما إن كان السؤال عن الاغنية الوطنية الرائجة، فالأمر يتعلق بشكل هذا الرواج والعوامل التي من شأنها تحقيقه. فالأغنية الوطنية، غالباً، تنتشر عن طريق الضخ الإعلامي أو من خلال رواج اسم مؤديها أو نجوميته.

ولكون هذه النجومية محققة في دول الجوار بدرجة تفوق تحققها في بلادنا، سواء على صعيد الكلمة أو اللحن أو الأداء ــ ونتحدث هنا عن النجومية بمفهومها الدارج ــ فإن هذا ما يبرر حضور أسماء من دول أخرى في صناعة أغنيتنا الوطنية بشكل يفوق الصنّاع من أبناء سورية.

أما عن فكرة الأغنية الوطنية الجامعة، فيرى إدريس أنه لربما كان للشرخ الاجتماعي الذي نعاني من تبعاته أثر في عدم وجود كلمة مغناة يجمع عليها السوريون في ظل الانقسام الحاصل على أكثر من صعيد.

فشل أسبابه متعددة

المايسترو والملحن فراس هزيم بدأ كلامه بالتأكيد على أن زمن الفن الجميل قد انتهى، لكن هذا لا ينفي وجود أغنية وطنية جميلة صناعها سوريون، لكنها قليلة، ورأى أن المشكلة أكبر من وجود أو عدم وجود كتّاب وملحنين، فهم موجودون وبعضهم على مستوى عالٍ من الإبداع، لكن ما وصفه بالفشل له أسباب عديدة، أولها أن الأغنية الوطنية تنجز دائماً، أو في غالب الأحيان بطريقة التكليف من بعض الجهات الرسمية، أي مجاناً، لذا أصبحت تجارية ومتعلقة بالمناسبات فقط، فالملحن والكاتب المحترف يفضل العمل على أغنية يتقاضى منها أجراً يعتاش منه، إذ أن لديه التزامات تفوق غالباً التزامات الآخرين.

ووصف هزيم إنتاج الأغنية الوطنية الحقيقية بالمعقد، فهي تحتاج إلى ورشة عمل يتم خلالها اختيار الكلام الأجمل والأعمق، ومن ثم اللحن الأجمل والأكمل، والصوت الجميل والمثقف موسيقياً، إضافة إلى سبب أخير كان الأهم برأيه، وتوافق فيه مع الكاتب إدريس، وهو عمق الحالة الوطنية التي تؤدي إلى إنتاج أغنية وطنية مميزة.

أين إذاعة دمشق؟

الشاعر الغنائي سومر حسان يوسف ركّز على غياب دور الجهة التي عليها جمع الثالوث المسؤول عن إنتاج أغنية وطنية سورية، أي الكاتب والملحن والمطرب، والتي هي برأيه إذاعة دمشق التي كانت في زمن مضى تصدّر الأغنيات لكل الوطن العربي، أما اليوم فيبتعد عنها المبدعون لعدة أسباب، أهمها الأجر المادي غير المنطقي الذي تقدمه لقاء أعمالهم، والكاتب أو الملحن أو المطرب، من حقهم البحث عن جهة تمنحهم الأجر الأعلى، لذا وصف يوسف الحالة بالغربة بين أصحاب مكونات أي عمل جيد.

وثاني أسباب هذا البعد عن الإذاعة التي وصفها بمحور المشكلة، هو ما يجري بموضوع النصوص، إذ يتم قبول نصوص ضعيفة جداً وترفض أخرى جيدة تحت ذريعة إرضاء الجميع!

وهنا يتساءل يوسف عن معنى إرضاء الجميع بموضوع يتعلق بالجودة والذوق؟ وخاصة حين يكون أغنية وطنية؟! إذ يجب أن تُرفض النصوص السيئة وتُقبل الجيدة دون محاباة لأحد، لأن مثل هذه الإجراءات أدت إلى إنتاج أغنيات رديئة ورديئة جداً خلال فترة الأزمة، وهنا لا نتحدث عن سنة أو سنتين، بل عن عقد ونيف.

ويتوافق اليوسف مع الموسيقي نصري بفكرة أن الأغاني الوطنية اليوم تحولت إلى أغان يطغى عليها اللحن الشعبي، ويضيف: لا أقصد التقليل من قيمة الأغنية الشعبية ولا اللحن الشعبي، وغالبية الناس يحبونها ويستمعون إليها، لكن الألحان الشعبية يجب أن تقتصر على الكلام الشعبي، وأن يبتعد مؤلفوها عن بقية أنواع الكلام، وتحديداً إن كان كلاماً لأغنية وطنية، لأن المستمع في مثل هذه الحالة سينسى الكلام وغايته، وينجر خلف اللحن الشعبي. يستدرك يوسف ويقول إنه عندما تحدث عن ثالوث صناعة الأغنية لم يقصد أي كاتب أو ملحن أو مطرب، بل أن يكون الثلاثة من الموهوبين، إضافة إلى توفر الإمكانيات المناسبة، لأن ذلك كفيل بنجاح وانتشار الأغنية، أما ما يحدث حالياً، وبسبب ضعف الإمكانيات، هو أن النص يتم الحصول عليه من شاعر متواضع الموهبة، ليلحنه ويوزعه ملحن وموزع متواضعا الموهبة أيضاً، ثم يغنيه صوت عادي جداً، وبهذه الحالة، فإن النتيجة معروفة ولا داع لانتظارها.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة