جوى للانتاج الفني
الرئيسيةمساحة حرةأمجاد بشروط صانعيها

أمجاد بشروط صانعيها

مجيد الخطيب

على شاكلة جورج كارلين، الأب الروحي لمشهد كوميديا الستاند آب في تاريخ أميركا الحديث،
حل ديفيد شابيل فيلسوفاً متنكراً بزي كوميديان خلفاً للأول،
كما فعل جون ستيوارت أيضاً عبر برنامجه الهزلي الشهير
(The Daily Show).
القضية الكبرى التي أجمع عليها المفكرون الثلاث هي ضياع معايير المصداقية والمحاسبة على كل المستويات التي تشكل علاقة الفرد مع نظرائه،
ومن ثم علاقة الفرد مع العجلة الطاحنة لنظام الرأسمالية،
وحتمية تصادم مُثل الحكم الذاتي لشعوب الجمهوريات الديموقراطية مع فاشية سلطة رأس المال والشركات الكبرى،
والخداع المستخدم في تعقيم اللغة بغرض إيهام لرأي العام بأن الفقر على سبيل المثال،
هو حالة ذهنية قبل أن تكون مادية
.
لكن ماذا يعني أن يدرك الفنان بشاعة وقسوة المنظومة التي يحاول اختراقها؟ وماذا يترتب على هذا الوعي من درجات البقاء على تماس مباشر مع حس المراقبة والمحاسبة الذاتيتين؟

في زمن انحسار فعالية المؤسسات في أميركا، والسطوة التي شاهدناها تعطى مؤخراً لأفراد يستطيعون استنفار غرائز الناس والعزف الناشز على أوتارهم العاطفية،
كان أمثال جون ستيوارت وديفيد شابيل يحاربون النار بالنار، عبر توظيف ثقلهم كأفراد لترميم فكرة المؤسسات والنهوض بها مرة أخرى ومخاطبة عقل الجماعة لا عواطفها.

حجـــــر الأســـــاس لـــــهـــــذا المضمون بدأ عندما أداروا ظهورهم لأمجاد كانت تنتظر القطاف بشروط أثارت شكوكهم تجاه منظوماتهم الأخلاقية، ليعودوا في وقت لاحق بمعطيات وطرق تحقق الشرط الأول لهم،
ألا وهو أن ذاك الذي لا يحترم نفسه ضمناً، لن يستطيع تعليم أو ترسيخ أي مبادئ تذكر في تلافيف العقل الجمعي.

خلال فترة 2003 – 2006، كان برنامج ديفيد شابيل مع منظمة كوميدي سنترال يدر أرباحاً غير مسبوقة،
حتى أنه كان أكثر برنامج تلفزيوني بيع منه نسخ أقراص رقمية في الولايات المتحدة على الإطلاق.
وبالتزامن مع ذروة ذاك النجاح، كان ديفيد يشعر بأنه بدأ يقدم بحسب تعبيره “محتوى حذق ومضحك لكنه يفتقد للمسؤولية الاجتماعية”.

تـــــأتـــي إدارة كـــــومــيـــدي سنترال بعقد ذي شروط استعبادية، تحجم فيه سلطة ديفيد الإبداعية على المضمون الذي يؤديه، مقابل 50 مليون دولار.
الجميع اتهم ديفيد بالجنون عندما رفض الصفقة، فقرر أن يمضي وقتاً للتأمل في جنوب أفريقيا إثر الصخب والملامة من غيلان صناعة الترفيه المحيطين به، الذين لم يملكوا أدنى فكرة عن مدى ثقل مونولوجه الداخلي.

رغم غـــــيـــــاب طويـــــل عن الساحة الفنية، إلا أن ديفيد عاد ليقدم عروضه على خشبة المسرح، حيث أنه لم يجد جمهوره
القديم ينتظره بوفاء وترقب فقط، بل وجد جمهوراً جديداً أكثر شباباً، استطاع التواصل معه بنفس الأريحية، لذات الأسباب التي
اختار الاختفاء فيها لبضعة أعوام. الشفافية، التصالح مع الذات، والترفع عن مغريات كان سيضطر لمقايضة روحه مقابلها. عام 2016، يوقع ديفيد عقداً مع Netlflix لتقديم ثلاثة عروض يصيغها كما يشاء، مقابل 60 مليون دولار.

أثناء إحدى تلك العروض، يروي ديفيد قصة والده الذي كان يعمل في شركة للإحصاءات التنموية في واشنطن العاصمة، وعندما بدأت الشراكة التعامل مع حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، قرر الأب أن يستقيل.

العائلة عانت حينها من انقطاع المدخول، لكن ديفيد شعر باستحقاق مشبع بعد سنوات عديدة عندما لجأ إلى جنوب أفريقيا حرة
ليعتكف فيها. من هذا المنطلق، يعتبر الكوميديان التنويري أن الفنان يجب أن يعمل دائماً ضمن إرشادات بوصلة الصح والخطأ، وألا يرضخ أو يتنازل عبر القبول بمفاضالات السيء عن الأسوأ.

جون ستيوارت أيضاً عمل من مبدأ أن الفنان ينبثق من الإنسان، والإنسان يثمر مع العائلة، فقرر أن يمضي الوقت بعيداً عن صخب الإعلام مع عائلته بعد 16 عاماً من استضافة برنامج The Daily Show. خلال سنوات عمله، وبالأخص بعد حرب العراق وانصياع الصحافة الأميركية للرواية الرسمية الكاذبة عن أسباب الغزو، كرس جون نفسه كأكثر شخصية قادرة في أميركا على وضع السياسيين تحت المجهر عندما فشلت المؤسسات الإعلامية بالتصدي لهذا الدور.

الظهور العلني الوحيد لجون كان في محاصرته الإعلامية للكونغرس الأميركي كمتحدث باسم المتطوعين المعروفين بلقب (أول المستجيبين)، وهم المدنيون والمحاربون القدماء ورجال الإطفاء والشرطة الذين عانوا من أمراض مزمنة إثر استنشاق الغازات السامة خلال عمليات الإنقاذ المبكرة لضحايا هجمات 11 أيلول. جون أحرج الكونغرس إذ كشف تقصيره في تغطية التكاليف الطبية لمعالجة أول المستجيبين أمام الرأي العام، وألزم مؤسسة متقاعسة على القيام بدورها الطبيعي.

يعود جون مؤخراً كمضيف لبرنامجه الجديد على منصة Apple TV، مع عقد قابل للتجديد بقيمة 24 مليون دولار في السنة.
وحتى اليوم، جون هو المحاور الأكثر شراسة ومصداقية في أميركا رغم أنه كوميديان بالأساس.

الرجل المضحك الذي أبكى أصحاب السلطة وعرى الأجهزة التي كان من المفترض أن تقوم بمساءلتهم، يظهر لنا منذ بداياته المتواضعة وحتى اليوم، بأن ضميره لا يباع ولا يشترى.

سيأتي يوم يختبر فيه كل فنان، صاحب رؤيا ومشروع، مصداقيته وتماسك سلم أولوياته، وسيضطر أحياناً لأن يجوع جيوبه كي يشبع روحه، وستمر عليه فترات يشعر فيها بنقص الجدوى والوحدة والاستغلال، والضرورة لتأجيل لحظة الانتصار كي يفهم قبلها معاني وتعاليم الهزيمة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة