جوى للانتاج الفني
الرئيسيةعلى الخشبةأكاديمية الضحك .. المُزاح الذي يخشاه المتنفذون في كل مكان ..

أكاديمية الضحك .. المُزاح الذي يخشاه المتنفذون في كل مكان ..

د. ميسون علي

المُزاح الذي يخشاه المتنفذون في كل مكان

عرض “أكاديمية الضحك” للكاتب الياباني كوكي ميتاني، (1961 ـ ..)،
من إعداد وإخراج سمير عثمان الباش، قدم للمرة الأولى في العام الماضي،
إذ اختبره المخرج ضمن عروض “مدرسة الفن”،
ليعود لتقديمه في عرض جماهيري بالتعاون مع مديرية المسارح والموسيقى.
“كوكي ميتاتي” كاتب مسرحي وممثل وكاتب سيناريو ومخرج سينمائي ياباني،
قدمت مسرحيته “أكاديمية الضحك” عام 1996،
وبعد النجاح الذي حققته تحولت إلى فيلم سينمائي عام 2004،
موضوع المسرحية هو الرقابة وحرية الفنان في التعبير،
تدور الأحداث على خلفية الظروف الأمنية التي عاشتها اليابان بعد عام 1940،
ودفعت السلطات لبسط سيطرتها على كل شيء بما في ذلك الفن بأنواعه.
كاتب مسرحي يعمل مع فرقة تدعى “أكاديمية الضحك” لتقديم مسرحية كوميدية هي محاكاة ساخرة بعنوان “جوليو ورومييت”.
يواجه الكاتب رقيباً حكومياً يعتبر أن تقديم محاكاة ساخرة يابانية لشكسبير،
ستكون أقرب إلى تناول “السوشي” الذي صنعه ونستون تشرشل! يطلب الرقيب إجراء تعديلات متعددة على النص، ليتطوّر وينتهي بطريقة غير متوقعة
.

كوميديا الضحك
كوميديا الضحك

الإعداد المسرحي

عمد المخرج إلى إعداد النص، آخذاً بعين الاعتبار المتفرج السوري، وقد تحكّم هذا بالتعديلات التي طرأت على النص، واختيار العناصر الجمالية التي حملت العرض. عمل المخرج على تخليص النص من خصوصيته ومرجعيته اليابانية، من خلال بحث حقيقي عن الأسلوب الأكثر فعالية لتحقيق التواصل الفعال بين العرض والجمهور، وملاءمة النص مع مرجعية الجمهور، هكذا تم تعديل سياق النص الأصلي ونقله إلى السياق المحلي، وتقديم قراءة محددة له، وقد تم نقل لغة الحوار من اللغة الأدبية إلى اللهجة المحكية، التي تتناسب مع الموضوع المطروح. كما أعطى الإعداد النص أهميته وراهنيته. وتبدو عملية الإعداد مُلحة بشكل خاص عند تقديم عمل كوميدي، إذ تختلف شروط الإضحاك من بلد لآخر، كما أن إعداد هذا النص ذي البعد التاريخي والسياسي، أخذ شكل إسقاط على الوضع الثقافي السوري الراهن.

كوميديا الضحك
كوميديا الضحك

تابو الضحك

يسعى الكاتب لنيل موافقة الرقابة على نصه، لكنه يُفاجأ بقول الرقيب “نحنا بحالة حرب كونية، شو بدنا بالمسرح والضحك؟” وأننا في زمن لا يحتمل الترويج للكوميديا بسبب المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، ويؤكد “أنا ما بضحك وما بضحِك، ما في داعي الناس تضحك”! وبينما يشرع الكاتب في شرح أهمية الكوميديا يؤكد الرقيب “الإنسان اللي بيعتمد على الضحك إنسان ضعيف”. والحال أن هذه النظرة الدونية للمضحك ليست وليدة الفترة الراهنة، إذ لطالما كان المضحك يؤرق السلطة، وخلافاً للمأساوي لم يحظ المُضحك باهتمام جدي إلا في فترة متأخرة نسبياً مع نشأة وتطوّر علم الجمال، ويمكن أن نُفسّر الإهمال الذي طال الضحك وكل ما هو مُضحك بتأثير من مواقف رافضة، منها موقف أفلاطون وأرسطو وموقف الدين، وبسبب النظرة الانتقاصية إلى الاحتفالات وأشكال الفرجة الشعبية التي تتوجّه للعامة وترتبط بالضحك مثل الكرنفال والفارس والكوميديا ديللارته. والواقع أن دراسة المضحك لم تتطوّر إلا بعد أن تم الوعي بأهمية الضحك في الحياة عامة، وبعد أن اعتبر الضحك ظاهرة إنسانية وهذا ما بيّنه داروين الذي اعتبر الإنسان حيواناً ناطقاً وضاحكاً، وعندما نُظر إلى الضحك كعملية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بغريزة اللعب وبرغبة الإنسان في المُزاح.

كوميديا الموقف

ابتعد العرض عن كوميديا الفارس أو الغروتسك بما فيها من مبالغة، لينبني العرض على كوميديا الموقف والحوار كأحد ركائزها الأساسية، وإبراز علاقة الكوميديا بالجاد، وكيف يمكن أن تكون عاملاً مساعداً لإظهار الجاد، فنحن إزاء كوميديا هادفة تحتوي على شحنة فكرية من خلال لحظات متوهجة في العرض لتمرير الأفكار الجادة.. الرقيب بقناعاته السياسية، يتحدث عن أوامر عليا بتقديم أعمال تُمجّد الوطن نظراً للظروف التي تمر بها البلاد “ما رح أعطيك موافقة على قصة حب”، يقترح “هاملت” قصة انتقام وبطولة، هكذا يحل هاملت محل روميو، ولا بد من حضور شخصية تمثل السلطة هي الشرطي، الذي يلاحق مجرماً فاراً يُفسد على العاشقين مشهد القبلة، وتبلغ السخرية ذروتها عندما يصرّ الرقيب على إدخال جمل تنتعش فيها روح التضحية والحماسة الوطنية مثل “يحيا يحيا.. عاش عاش”، ولا حل سوى أن يكون يحيا اسم سائس الخيل، والوطن اسم حصان هاملت، ويستمر السيناريو العبثي للتعديل، وليصبح الواقع أشد سخرية من الخيال.

لجين اسماعيل
لجين اسماعيل

تميز العرض بحبكته الدرامية المترابطة، والمواقف المشحونة بالمفارقات الكوميدية الأصيلة، المعتمدة على عنصر المفاجأة والإدهاش، كما ساعدت اللغة على الإضحاك باعتماد مفردات بمكن أن تُقرأ بمعانٍ مختلفة، وتكون مناسبة للشخصيات وتؤدي الهدف الدرامي المنشود، فالتلاعب اللفظي بمختلف تنويعاته وإيماءاته وإيحاءاته المحلية، كان عاملاً أساسياً في بناء المواقف الكوميدية بين الشخصيتين، فضلاً عن عنصر التشويق والاستفزاز المستمر بينهما.
الكاتب أعزل سوى من نصه، مقابل الرقيب المسلّح بكل المعاني، خطاب شعاراتي لا يكل من ترديده مهدداً الكاتب برفض نصه، والختم الذي يضعه بقوة متناهية على النص بعبارة “مع عدم الموافقة”، وليصل الأمر بالرقيب لتهديد الكاتب مرة بآلة حادة هي خرّازة الورق ومرة بالمسدس!

ويبلغ السيناريو العبثي منتهاه عندما يتزامن حصول الكاتب على الموافقة مع استدعائه للخدمة العسكرية، مما يثير تعاطف الرقيب معه، ويبدي للمرة الأولى إعجابه بالنص، “كل الأسبوع الماضي كنت عم اقرأ مسرحيتك وأضحك، أنا معجب بموهبتك.. ضحكت 83 مرة”، ويبوح بجرأة عن الشرك الذي وقع فيه كموظف في الرقابة حاله أشبه بحال الغراب الذي اقتحم منزله، ربطه ليمنعه من الحركة ومن ثم وضعه في قفص أصغر من حجمه فطار بعد أن نقر صاحبه، والحساسين التي مات أحدها لأنها وضعت في العتمة لوقت طويل، أما صوت تغريدها فيبعث على التوتر، لأنها تنتقي لحناً واحداً، هو ذلك الذي لقنها إياه معلمها، هذا اللحن الواحد، يعادل الكليشيهات التي حفظها الرقيب ولا يكل من ترديدها.. حبكتان موازيتان للحبكة الأساسية، هما تكثيف رمزي لوضع الجلاد والضحية.

يوقد تكاملت الشخصيات وتبلورت في أداء الممثلين، لجين اسماعيل “الرقيب” ببدلته الرسمية الثابتة كثبات خطابه الرسمي، إذ ما إن يخلع الجاكيت حتى يسارع بارتدائها، وكرم حنون “الكاتب” بلباسه اليومي البسيط نقيض زي الرقيب، لقد أبرز الأداء الأبعاد المتعددة للشخصيات، ومعايشة التناقضات التي تعيشها، وتبرير كل كلمة وكل حركة، والتعامل بانسجام مع الشريك، انطلاقاً مما يحدث بين الشخصيتين. أداء مرتبك خائف لجوج مراوغ للكاتب، مقابل الرقيب القاسي الجشع بقناعاته الثابتة، وإظهار تحوّل العلاقة بين هذين النقيضين، بعد اللقاءات السبع، ليتضح أن الرقيب يتمتع بضمير حي، في إشارة إلى قدرة الفن الحقيقي على تحريك المشاعر الإنسانية حتى مع أشخاص بيروقراطيين.

التغريب والمسرحة

تجري أحداث المسرحية في فضاء العلبة الإيطالية كمفهوم له علاقة بشكل التلقي وبتحقيق الإيهام، إلا أن المسرحة لا تغيب من خلال توجّه الممثل للجمهور “السلطة مهتمة بشكل خاص بالسياسة الثقافية للبلد، لذلك عينوني بهيك منصب”، أو عندما يرفع سبابته مُهدداً “ضيف جملة لا تتحرّك من مكانك”، وكذلك في أداء الكاتب لبعض المشاهد أمام الرقيب، وعندما ينسى الأخير صرامته ويتورّط في لعبة المسرح داخل المسرح وبشكل كاريكاتوري، مرة بدور الشرطي مما يُسهم في ظهور المهرج الداخلي في شخصية الرقيب ومرة بأداء دور الكاهن، مرتدياً زيه فوق بزته الرسمية، ليدل على تعدد أوجه السلطة والرقابة سواء الدينية أو السياسية، كما برزت المسرحة باستخدام القناع الأحادي المُستلهم من مسرح الشرق الأقصى، والإيحاء الكاريكاتوري التهكمي للقناع، الذي سمح بعدم التطابق بين الممثل والدور، أما سقوط القناع وتحطمه في المشهد فما هو إلا تكثيف رمزي لانكسار المسرح “الفن” في فضاء تتحكّم به الرقابة والفساد.. مشاهد تعري القوانين والوضع القائم لتوعية المتفرج، على مبدأ “بريشت” الذي ربط بين المعرفة والمتعة.

سينوغرافيا العرض

قدم يوسف عبدلكي رؤية تكاملت مع خطاب العرض، ديكور ثابت مغلق يحاكي مكتب مسؤولي الرقابة: طاولة وثلاث كراس، ونافذة متخيلة في مقدمة الخشبة، المكتب في العمق بعيداً عن النافذة، في دلالة على انغلاق شخصية الرقيب وعدم تفاعله مع العالم الخارجي. تحيط بالمكتب مجموعة من أدراج المصنفات الورقية حملت أرقاماً وأسماءً بمحتوياتها، ضمنها فتحات تفضي إلى مجموعة أخرى من الأدراج ذاتها، تبدو متكررة لا نهائية. أدراج أشبه بتوابيت مصطفة بعناية، هي مدفن لعشرات النصوص التي تم رفضها! ومن لوحة لأخرى تتغيّر وضعية المكتب، مرة على يسار الخشبة ومرة على يمينها ومرة في مقدمتها، للدلالة على التغيير الشكلي فقط لدى الرقابة وثبات الموقف والرأي.
الإضاءة (مرح العريضي) كانت عامة غالباً، وتتغيّر مشاهد المسرح داخل المسرح. الموسيقى (مختارات عالمية) تصدح في نهاية كل لوحة بإيقاع مرح يناسب الكوميديا، يتكرّر اللحن نفسه في نهاية اللوحات الست، كناية عن التكرار في موقف الرقيب، ليتغيّر اللحن في اللوحة الأخيرة معبراً عن التغيير الحاصل، لا سيما ظهور المشاعر الإنسانية لدى الرقيب وتحوّل علاقته بالكاتب، كما ساهمت الموسيقى والستارة في تقطيع العرض.

وبالنتيجة لا بد من ملاحظة أن العرض يشكو من الإطالة (ساعتان) ويمكننا أن نتفهم البنية التكرارية للعرض، والتعديلات المتكرّرة من الرقيب، لكن كان بالإمكان تكثيفها واختصار بعض الحوارات والتعبير عنها بشكل آخر. كما كان هناك فراغ زمني بين اللوحة السادسة والسابعة، مما ولد الشعور لدى الجمهور بأن العرض انتهى، وهو لم ينته فعلياً، وكان من الضروري أن تبدو اللوحتان مترابطتين بشكل أفضل. وختاماً لا بد من الإشارة إلى أن العرض لا يكتفي بمعالجة وطرح مشكلة الرقابة، والعلاقة بين المبدع والرقيب، بل يثير أسئلة المسرح، والكتابة المسرحية ووضع المسرح في المجتمع، والاستسهال في التعاطي معه كفن أصيل.
قال كارل ماركس مرة “إن الكوميديا الناقدة تظهر وتكون فعّالة عندما يمرّ المجتمع بمنعطف حاسم من تاريخه”، نحن لسنا في منعطف تاريخي واحد، إنما استمرار في الانعطاف، فكم نحن بحاجة إلى نماذج لهذه الكوميديا الهادفة ضمن مساحة نتاجنا المسرحي. ومما يعزّز من قيمة المسرحية أنها تعرض اليوم في دمشق في جو يلح بالمطالبة برفع الرقابة عن الإبداع، ودعم وتعزيز دور المسرح كونه الفن الذي يعلمنا، عبر الأمثولة والحوار، ضرورة رأب الصدع الذي أصاب المجتمع بعد سنوات الحرب وتداعياتها.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة