جوى للانتاج الفني
الرئيسيةنقد تلفزيونيأغمض عينيك.. الأعمال التي نريد مثلها

أغمض عينيك.. الأعمال التي نريد مثلها

جوان ملا

معيار نجاح الأعمال الدرامية لا يقتصر على الترند وقت العرض ولا على الشخصيات الفاقعة أو الحكاية المليئة بالحركة والجريمة، نجاح العمل نلمسه من خلال حديث الشارع عنه لمدة طويلة،
فيستذكر الناس تفاصيله وأفكاره المطروحة حتى بعد سنوات،
وذلك يكون لأسباب عدة منها أن العمل لا يخاطب حقبة آنية قد تختفي مع الأيام، أو لأنه يتحدث عن قضية صالحة لكل زمان ومكان، أو عن حياة طبيعية تشبه الناس وأحلامهم وآمالهم..
افتقدنا هذه الأعمال، إلى أن جاء مسلسل أغمض عينيك الذي عُرض في موسم رمضان 2024 عن قصة كتبها أحمد الملا ولؤي النوري وكتب السيناريو والحوار الخاص بها المهندس فادي المنفي وأخرجها مؤمن الملا في أولى تجاربه بالأعمال الاجتماعية، في حين كانت البطولة للنجوم منى واصف، أمل عرفة، عبد المنعم عمايري، أحمد الأحمد، حلا رجب، جابر جوخدار، فايز قزق والطفل زيد بيروتي والممثل الشاب ورد عجيب.

لمسة إنسانية وتشويق غير مقحَم

تحدث العمل عن طفل يعاني من اضطراب طيف التوحد، تسعى أمه جاهدة بكل السبل لتحميه من غدر الزمن والمحيط بعد هروب الوالد لمكان لا تعرفه بعد أن تزوجته “خطيفة”، فتجد نفسها وحيدة لتقع في مطب صعب جداً يدخِلها السجن ظلماً فتبتعد عن ابنها ليربيه رجل آخر يساعدها بكل حب ويتعلق بالطفل بعد أن فقد ابنه الصغير وزوجته بحادث سير، وذلك بدون نية سيئة منه ولا حتى علاقة حب تربطه بوالدته.
يستمر العمل هكذا حتى خروج الأم من السجن وتتتابع الأحداث إلى النهاية تسعى فيها الأم حياة لتعيد لقلب ابنها الحب تجاهها وإثبات براءتها بعد أن ظن أنها تخلت عنه.
الحكاية ربما تبدو بسيطة، لكنها قُدِّمت بعناية كبيرة وعلى طبق من مشاعر إنسانية خالصة بدءاً بطرح أزمات ومشكلات الأطفال المصابين بالتوحد، وتسليط الضوء عليهم، وكيفية تعامل المختصين معهم وصولاً للمشاعر الإنسانية التي كانت تربط أبطال القصة ببعضهم البعض، من صداقة وأبوّة وأمومة وحب مجتمعةً كلها في عمل بدأ دافئاً وانتهى دافئاً بتصعيد ذكي مدروس غير ممل رغم قلة الشخصيات الأساسية، والتي تحركت بكل سلاسة، ساعدها أيضاً حدوث القصة في عام 2009 وهو الزمن الذي يحن له الجميع، لتبقى الذروة مرتفعة خصوصاً من الحلقة الرابعة حتى النهاية دون إقحام أو إساءة أو تشويق مجاني أو مشاهد فجة عنيفة، فنحن نشاهد صراعاً بين الأم حياة وأبيها الرافض لها ولحفيده وجريمتها غير المرتكَبة قصداً وابنها المريض مع تشعب قصص أخرى تغني الحدث كعلاقة حب جمعت بين حلا رجب وجابر جوخدار، وصداقة أحمد الأحمد مع عبد المنعم عمايري وطيش الأحمد في علاقاته مع النساء الصغيرات وتزعزُع علاقته بابنه وتعنُّت والد الأم حياة “فايز قزق” في موقفه تجاه ابنته وتمرد زوجته “منى واصف” عليه بعد أن عرفت أن ابنتها في ورطة، كل هذا منح المشاهد التشويق غير المجاني والمختلف في طبيعته عن باقي الأعمال، فهو لا ينتظر من سيقتل من أو من سيطلق الرصاص على من، أو من سينتقم من مَن بل هو يتابع حكاية درامية مشاعرُ شخوصها هي التشويق بحد ذاته

أغمض عينيك
أغمض عينيك

سلاسة الأداء

لدينا نجوم مخضرمون في هذا العمل، أسماء ذات تاريخ وأرشيف فني طويل، لكن هذا قد لا يعني شيئاً في حال عدم وجود نص مهم أو مخرج يعرف كيفية إدارة الممثل، لكن ذلك لم يحصل في “أغمض عينيك”، فالعناصر كلها اجتمعت ليقدم الفنانون الأبطال أجمل ما لديهم بكل سلاسة وبساطة ومتعة وهدوء وبدون أي مبالغة.. كانت الشخصيات كلها تشبهنا وتتحدث بلساننا بحوارات بسيطة ممتعة لا “فزلكة” فيها ولا إسفاف.
أدت أمل عرفة مشاهدها بطريقة مذهلة، صدقنا أنها أم الطفل بحق، لم تخفت هذه النجمة بمشهد واحد، بل ظلت تعرف كيف تقنع المشاهد بحزنها وانكسارها وفرحها وحيرتها، في حين لعب عبد المنعم عمايري أجمل أدواره منذ سنوات، ليخرِج بشخصية مؤنس من الصورة النمطية للرجال الذين باتوا يُصَدرون كثيراً في الدراما على أنهم قساة أو مجرمين أو غيره، لكن مؤنس لديه قلب حنون، وعطف جارف، ودموع تنهمر بصدق عال.
خلع عمايري عباءة أي قسوة ممكنة وارتدى لباس النخوة والطيبة فرسم الشخصية بإبداع حاضر، وتمكنت القديرة منى واصف من الوقوف كالسنديانة فعلاً في كل المشاعر التي قدمتها من حزن وغضب وخوف وتمرد، كانت الجدة الحقيقية الخائقة على حياة ابنتها وحفيدها، فلمست بأدائها كل جوارحنا.
بدوره حلق أحمد الأحمد عالياً بشخصية غير نمطية تسرح وتمرح وتحب الحياة والطيش لكن ذلك لم يمنعها من العيش بحب وكرامة، في حين ارتدى القدير فايز قزق عباءة الرجل المتعنت بكل إتقان، فكان ذلك الجد الصارم الذي لا يتراجع عن شيء، بينما كانت حلا رجب ومعها جابر جوخدار بمثابة “سكرّة العمل”، طعمهما حلو ورؤيتهما أجمل.
تمسكت حلا رجب بالشخصية وكأنها سلام، شعرت بها للأقصى وانغمست بمشاعر متناقضة من الحب والدفء والضياع والأنانية، كذلك كان جابر جوخدار الذي رسم ملامح عاشق مهيب راقي ومتزن في الأداء، وقد اشتاقت الشاشة برؤية جابر بهذا الشكل.
الصدمة الإيجابية كانت بالطفل زيد البيروتي الذي صدق بعض الناس أنه مصاب بالتوحد فعلاً لإتقانه دوره بطريقة إبداعية مخيفة لدرجة أن المُشاهد حين يراه يكاد يريد أن يحضنه لما يصير في نفسه من رقة وجمال وأداء ساحر برع فيه بشدة، وزيد هو من متدربي الكوتش يزن مرتجى الذي قدم للدراما هذا العام مجموعة أطفال ذوي أداء رائع كنتاج لورشته تلك.
المفاجأة الثانية كانت في ورد عجيب بطل القصة “جود الكبير” بعد مرور سنوات، ليظهر خريج المعهد العالي للفنون المسرحية بشخصية متقنة لعبها ببراعة دون أن نخاف كمشاهدين من تحول زيد البيروتي لجود عجيب، فكان الأداء حقيقياً لورد كسب فيه الرهان.
كل أبطال العمل كانوا سلسِي الأداء لدرجة تؤلم القلب لكثرة جمالها، خصوصاً أنهم كلهم اعتمدوا على الأحاسيس الداخلية لا الخارجية، فلعبوا كلهم على مبدأ الانفعال الداخلي الذي أشعرونا به بجدارة، وهو أصعب بمراحل من الأداء الخارجي الذي يعتمد على كاركتر أو نمط أو لازمات كلامية أو غيره، فكان للجميع مساحته الصحيحة وأداؤه المريح

أغمض عينيك
أغمض عينيك

عدسة مؤمن الملا

تجارب المخرج مؤمن الملا في الدراما قليلة عموماً مقارنة بأخيه الراحل المخرج بسام الملا، فمؤمن قدم مجموعة أعمال شامية فقط هي “حمام شامي، الزعيم” وشارك بسام في إخراج أول أجزاء سوق الحرير،
لذا كان من الصعب أن يتنبأ المشاهد كيف سيكون العمل، لكن مؤمن الملا مع المخرج مضر ابراهيم قدم صورة متقنة هادئة مريحة مع تلوين أزرق للعمل يتناسب مع الانفعالات النفسية الشخصيات،
وكان مؤمن المخرج الأبرز هذا الموسم الذي ركز على تفاصيل دمشق ضمن حكاية اجتماعية،
فالمدينة السورية الجميلة هذه لم تكن محور الحماية كما الأعمال الشامية مثلاً،
لكنه رغم ذلك كرسَها بعدسته مع حضور بيوت وحوارات شامية بحت وعدسة هادئة تعرف كيف تقتنص التفصيل، أما عن الممثلين فمن الواضح أنه كان يقودهم بعناية مطلقة وجدارة واضحة مع ظهور كل هذا الإبداع لديهم جميعهم في إبراز مشاعرهم،
كما يَحسَب للملا أنه اختار بعناية كل الأدوار حتى البسيطة جداً،
فكان الكل في مكانه الصحيح لا سيما الممثلون الشباب في المرحلة الثانية من الحكاية ومنهم ميراي جحجاح، فادي حواشي، تيما الغفير، يزن مرتجى، يوشع محمود، شيراز لوبية، لانا الحلبي ومرام اسماعيل، لم يمر أحدهم بشكل مزعج مثلاً أو كان أداؤه “كليشيه” أو عادي، بل كانوا يتماهون بقوة مع الحكاية دون الخروج عن روحها الأساسية، فأغنوا القصة وكانوا مضبوطين في الشكل والمضمون يتحركون بسلاسة مع أبطال القصة ويعرفون ماذا يفعلون

 

عمل حي

ما يميز أغمض عينيك ليس السيناريو أو الإخراج أو التمثيل فقط، بل يميزه “قابليته للاستمرارية والحياة”،
فهذا العمل كما أسلفنا سيعيش سنيناً طويلة ويحكي عنه الشارع والمتابعون لكونه لامس حكاية بسيطة إنسانية لم يتخللها حرب أو قصف أو رصاص أو جريمة،
ولأن العمل غير آني ولا يتحدث عن حقبة معينة بالذات أو عن الحرب السورية،
كذلك يتناول قضية إنسانية مُحِقة قدمَت بروح عالية وبقيت تشغل قلوب الناس كثيراً حتى من لا يعنيه أمر التوحد كثيراً.
ولهذه الأسباب فإن مشاهدته ممكنه لعدة مرات،
ففي كل مرة هناك اكتشاف مختلف بالعمل يمكن للشخص أن يشعر به،
فيعيد المشاهد الحكاية من جديد بكل حب دون أن يقول “والله ملينا من الحرب والضرب” وفي الوقت نفسه دون أن “يتسلى” لمجرد التسلية فقط كما الأعمال الدارجة مؤخراً،

أغمض عينيك
أغمض عينيك

فهناك قضية راقية مطروحة تُحتَرَم بشكل كبير لا يتسلى فيها المتابع فقط بل يكسب قلوباً جديدة منها أيضاً.أغمض عينيك تجربة درامية سورية ثرية بالمشاعر وغنية بالسحر واللباقة واحترام المشاهد،
ونحن بأمس الحاجة لهكذا أعمال طال غيابها دون أن نلهث وراء الترند أو الأكشن والجريمة،
فمازال في الحياة أناس طبيعيين مثلنا لديهم قصة بسيطة من الممكن أن نطرحها دون رصاص أو قتل، بل بهدوء ورُقي واحترام يعيش طويلاً بيننا وعلى الشاشة.

مقالات ذات صلة

- Advertisment -

الأكثر شهرة