مضى حسن سامي يوسف إلى الموت دون تنازلات. رحل محمّلاً بحبّ الناس المتعبين والمهمّشين الذين نسج حكاياتهم على الشاشة، وعلاقاتهم، وأقاصيص حبّهم بحساسية شاعر وقلم روائي متمكّن. رحل مزداناً بنياشين الامتنان والتقدير من الملايين لكاتب غاص في أوحال الواقع، ولم يتنازل عن مقاربته في زمنٍ تنازل فيه الكثيرون.
لقد بقي يُراهن حتى النفَس الأخير على الصدق والحُبّ والحريّة والفكرة والهمّ والهويّة، وينتظر زمناً سيعود فيه الجميع ليتحلّقوا حول دراما “الأستاذ حسن” مع كل عمل جديد، كما كانوا يفعلون دائماً. ففي النهاية، لا يصحّ إلا الصحيح.
لكن الموت لم يمهل الأستاذ ليكتب أكثر، ولم يعطنا الفرصة لنستزيد ونتعلّم ونستمتع أكثر بدراماه المثقلة بحزننا وعارنا وندمنا ووجعنا وخيباتنا وآمالنا.
العادي والاستثنائي
المُشاهد لأعمال حسن سامي يوسف لا يمكن إلا أن يلمح لديه القدرة على تحويل العادي إلى استثنائي. فالشخصيات في أعماله لا تتمتع بجاذبية خاصة، ولا تمتلك صفات ملحمية، لكن براعة الأستاذ في تقديم معالجات درامية قوية وإعطاء عمق للشخصيات والاشتباك مع واقعنا المُعاش في أكثر المفاصل قسوة، تنقل أعماله وشخصياته إلى مستويات استثنائية، وتحوّل العادي إلى استثناء. فشخصية أمجد في “الغفران”، وبثينة في “زمن العار”، شخصيات عادية التقطها حسن سامي يوسف من الهامش. وهي إن بدت في الظّلّ بلا صوت، ، لكن حوّلتها المأساة إلى شخصيات لا تُنسى، بعد أن صقلها حسن سامي يوسف بالألم والهمّ.
وحتى شخصية عبّود في “الانتظار”، عن نص ل”حسن سامي يوسف” و”نجيب نصير”، والتي كانت لتبدو ملحميّة في نص ساذج، حال حسن سامي يوسف دون أسطرتها، فقتلها في نهاية القصة، لأن الناس في الواقع يموتون مهما بدو لنا أبطالاً.
أمانة كاتب
تابعت، مؤخراً، مسلسل “الغفران” للراحلين حسن سامي يوسف وحاتم علي، وما لفتني حقّاً أن حسن سامي يوسف، الذي سرد في النص جزءاً من سيرته الذاتية، كتب رائعته تلك متحرّراً من موقف الكاتب الذي يهيمن على الشخصيات، فكان النصّ بعيداً عن الأحكام المسبقة والمُحاكمات، وهذا لا ينجح عادةً عندما يكتب الناس سيرتهم الذاتيّة، فكتابة السيرة الذاتية تنضوي على قدر كبير من ديكتاتوريّة الكاتب في الحُكم على الشخصيات، لاسيما تجاه تلك التي تركت آثاراً وجراحاً غائرة في نفسه، ولهذا السبب بالضبط تجد الكثير من أساتذة السيناريو ينصحون تلامذتهم بعدم قصّ سيرتهم الذاتية في أعمالهم أو تشبيك سيناريوهاتهم مع قصص حقيقية عاشوها، وتركت فيهم عميق الأثر، حتى لا تهيمن مشاعرهم الخاصة على مشاعر الشخصيات، ولا يطغى موقفهم على موقفها، وهذا بالضبط ما نجح حسن سامي يوسف في القفز فوقه في نص يستلزم إنجازه بهذا الشكل الفائق الذكاء قدرةً كبيرة على المشي بين الألغام.
في “الغُفران”، تظهر أمانة الكاتب، ومُعلميّة المُعلّم، الذي يخلق تعاطفاً من نوعٍ ما بين المشاهد وجميع الشخصيات، إلى الحدّ الذي يجعلك تتفهّم مواقفهم وهفواتهم ونواقصهم وعيوبهم، فمن حقّ الجميع أن يخطئ، ومن واجب الجميع أن يدفع الثمن.
ففي الحياة، لا خير مطلق ولا شرّ مطلق، بل بشر عاديون يقعون في الأخطاء، وشخصيات _على بساطتها_تعيش صراعاتها الداخلية الخاصة، وأنت ككاتب ستواصل تطويرها واكتشافها في أثناء الكتابة، وتمنح المشاهد رغبةً معدية باكتشافها، واكتشاف انقلاباتها ودوافعها ومبرراتها ومآلاتها في الطريق إلى النهاية.
هكذا هي الشخصيات في دراما حسن سامي يوسف الواقعيّة.
وإلى هذا الحدّ كان صادقاً وموضوعيّاً وأميناً في نقلها إلى الشاشة.
الرحيل دون ندم
حينما قرأت خبر وفاة حسن سامي يوسف صباح الجمعة، أول ما فكّرت فيه هو ما نشره العام الماضي على حسابه في فيسبوك.
“أنا عاطل عن العمل منذ ال٢٠١٧..”
من يصدّق!
لو قال لي أحدٌ هذا قبل سنوات، ما كنت لأصدّق أن حسن سامي يوسف مغيّب، لكنها الحقيقة التي أفشاها لنا الأستاذ حسن ذاتَ مساء حزين، قبل الموت بعام واحد.
لو لم يبلغ الألم عتبته، لم يكن حسن سامي يوسف ليقوم بهذه المصارحة العلنيّة. فعندما يُغرِق الخذلان الكاتب، يُفرد آلامه على الورق، وينزف روحه، وهو ما فعله حسن سامي يوسف على صفحات فيسبوك، كمحاولة أخيرة لتغيير قواعد اللعبة الإنتاجية التي لم تعد تقيم وزناً للنص السوري الخالص الذي دافع عنه حسن سامي يوسف حتى آخر يومٍ في عمره.
لقد قرع الأستاذ أجراس الخطر، لكنهم_ياللأسف_لم يعطوه آذانهم.
فلماذا غُيّب صانع الروائع ورائد السيناريوهات الواقعيّة التي تناولت دمشق كما لم يتناولها أحد؟!
سيقولون لك “الجمهور عاوز كده”، و زمن الأعمال الجادّة التي يكتبها قد ولّى.
لماذا إذاً تُنسى أعمالكم التجاريّة مع نهاية العرض وتحتلّ أعماله ذاكرتنا؟
لماذا نعاود مشاهدتها لمراتٍ دون ملل فيما نترك مشاهدة أعمالكم في منتصفها؟
لماذا تعيش شخصياته العادية في ذاكرتنا فيما يطوي النسيان أبطالكم؟
في النهاية، يبدو الصمت أبلغ في وداعيّة الأستاذ، فصاحب “الندم” تركنا دون ندم بعدما ملّ “الانتظار”، لكننا لن نتوقّف عن مشاهدتنا في أعماله التلفزيونيّة وقراءتنا في رواياته، وسننتظر الزمن الذي يخرج فيه من يكشف اللثام عن التحف الدراميّة التي يعلوها الغُبار في “دُرج” الأستاذ حسن.
سماح ميا – صحفية سورية